مواطن ومخبر وحرامي

نعم، هو اسم فيلم للمخرج الرائع داود عبد السيّد، يتحدث عن علاقة ثلاثة أشخاص بالسلطة، يبدأ الفيلم وهم لا يعرفون بعضهم معرفة حقيقية، وينتهي وهم على وئام تام.
قبل أعوام شاهدت الفيلم، وخطر لي أنّني يمكن أن أضع العنوان نفسه لقصتي مع اثنين من أصدقاء الطفولة، فقد كنّا ثلاثة، وعلاقتنا بالسلطة تصنّفنا إلى مواطن ومخبر وحرامي أيضا، بيد أن علاقتنا التي بدأت في أول الفيلم انتهت في آخره.

السلطة التي أعنيها هنا، ليست سلطة الدولة، وإن كانت هي أيضا تنطبق إلى حدّ ما مع اختلافات في تصنيف الشخوص، وإنما أعني سلطة الآلهة، والديانة، أو لنقل سطوة الدين، فقد كان سالم يتعامل مع الإله عادّا نفسه عميلا من عملائه، بينما كان أكرم يتعامل معه على أنه رقابة قاسية ظالمة يحاول الهروب منها، وأنا كنت المواطن الذي يحاول فهم القانون لكي يتجنّب المشاكل.
كنا صغارا نتردد على جامع الحيّ، ورغم أن الناظر إلينا لن يلاحظ فرقا بيننا، إلّا أنه كان ثمة فرق كبير، فقد كان أكرم يذهب مكرها، لأن والده يجبره على ذلك، أمّا سالم فقد كان يذهب ليتأكّد من رضا الشيخ الذي يعطي دروس القرآن عنه. أنا كنت أقلّهم زيارة للمسجد، لأنني كنت أكتفي غالبا بالصلاة في المنزل، لكنني كنت أذهب للاستماع للدروس.
من شاهد الفيلم وتأمل فيه، لن يبدو له صعبا تمييز من فينا المخبر ومن فينا الحرامي، لكن لكي أكون واضحا، فأنا لعبت دور المواطن في هذه القصة، فقد استفدت من رخص القانون الديني كلها، وتأكّدت أنني ألبّي متطلباته كلها أيضا، فقد كنت أحاول أن أعيش علاقتي مع الدين “راس بطاقية”، دون فذلكة، ودون إفراط أو تفريط.
أكرم، الذي كان يطيع الله خوفا من أبيه، بقي في نفسه شيء من الله، لأنه يأمرنا بطاعة آبائنا وكأن الآباء كلهم سواء، وهو يعلم أن أباه لا يشبه أبي أو أبا سالم. كان أكرم يقول: من أراد التشديد على طاعة الآباء لهذه الدرجة، وهو الذي يرزق الرجال أبناء، كان عليه أن يمنع كارثة ولادتي لهذا الأب!
سالم كان يتيم الأب، كانت علاقته جيدة مع خاله، خاله الذي لا يمكن ضمّه للصالحين من الرجال في عرف المجتمع في ذلك الوقت، كان خاله المعيل لأسرته المكونة منه ومن أمّه، لكنه كان رجلا خالعا، يحدث ابن أخته عن مغامراته مع الفتيات، وقد جعله يتذوق الكحول وهو دون سنّ الرشد. حتى إن سالم كان يحضر إلى المدرسة صورا خليعة، ويجعلنا نسترق النظر لها.
هذه ليست رواية، ولن أدخل بتفاصيل علاقة كلّ منا بالآخر، وأسباب ثبات المسافة بيني وبين كل منهما، وتردّدها قربا وبعدا بينهما بعيدا عني، لكنني أريد أن أقصّ أثر علاقة كل منا بالسلطة الدينية.
لعبت ذاكرتي الحديدية دورا في إتقاني لغالب فنون الدين، فأنا كنت أحفظ الثلاثة للقرآن والحديث، وأكثرهم إتقانا للتفسير، حتى أنني كنت بارعا في نقد التلاوة، رغم بشاعة صوتي، وكان هذا أقل الفنون إثارة لاهتمامي، فهو متعلق بقدرات صوتية ولحنية لم أكن أعرف أنني من الممكن أن أمتلكها، فزهدت فيها.
أما سالم فكان أكثرنا تقصيرا في فهم الدين، كان مسكونا بعقدة الذنب، فهو يحب خاله، ويحب القصص التي يرويها له، ويريد أن يكفّر عن كل ذلك بوساطة علاقته بالله، أو بإمام المسجد، وبالشيخ الذي يعطي الدروس فيه. كان يتعامل مع شعوره بالتقصير في جنب السلطة الدينية، باللجوء إلى عيون الناس، ليبدوَ فيها أكثرنا نقاء واتقاء لله، وإذا خالفه في ذلك أحدنا كرهه، ورآه شيطانا رجيما.
أمّا أكرم فكان يمتلك فهما عجيبا للنصوص الدينية، فقد يشبك بين منطق نكتة من النكات وبين منطق آية من الوحي، وكانت لفتاته تكاد تقتلني ضحكا، لكنها كانت تؤذي سالم، وتجعله يضطرب، بل إنه وشى فينا للشيخ مرات عدّة، مبررا سلوكه بكون يخاف علينا عذاب يوم عظيم، ونحن كنّا نتفهّم ذلك ونتقبّله.
كان أكرم يبدي ندما حقيقيا على ما قال، أما أنا فكنت أبدو لنفسي أكثر قناعة بما يقوله أكرم من أكرم نفسه. لم أكن مضطرا لكثير من التلوّن أمام الشيخ، فنصيبي من التقريع لا يصل لنصيب أكرم، وعلاقة والدي المضطربة بالمسجد، التي تقتصر على صلاة الجمعة، تشكّل حصانة لي، بعكس أكرم، فوالده على تواصل دائم بالشيخ، ويعدّ صديقا مقرّبا له.
لا أريد أن أطيل، وأريد أن ألتزم بفكرة أن هذه المقالة للإخبار عن حالة مجتمعية شهدتها، وليست رواية أو حتى قصة قصيرة.
مرّة قال لي أخي الكبير، ساخرا من درجة تديّني: إن الذين يتديّنون صغارا، يكبرون ليصبحوا أقلّ الناس التزاما بالدين. وكان لحكمه هذا شواهد كثيرة حولنا، لدرجة أنني صدّقته.
لكنّ رشدنا نحن الثلاثة لم يختلف كثيرا عن مراهقتنا، ما إن تحرر أكرم من سلطة والده، حتى اقتصرت زيارته للمسجد على صلوات الجمعة، وما إن فقد سالم خاله في حادثة مؤسفة، حتى صار ملازما للشيخ طوال الوقت، أما أنا فبقيت علاقتي بالمسجد علاقة رسمية جدّا، فلا هو منزلي الثاني، ولا مدرستي الأولى.
بحث أكرم عن سلامه الداخليّ فوجده بتجاهل الأمر، لأن نمط تفكيره لم يتناسب مع الدين من الأساس، وبحث سالم عن سلامه الداخليّ فوجده بالتكفير عن صورة مشوّهة لديه عن نفسه بملازمة صاحب الصورة النقية. أما بحثي أنا عن السلام الداخليّ كان مريرا.
فقد كنت أتردد إلى شيخي التابع لجماعة دينية منبوذة في أوساط الجوامع، وكان جارا لأكرم وسالم، وهذا كان سرّ قضائي وقتا طويلا معهما، وكان شيخا منفتحا على النقاش كله، حتى إنه كان يستمع للنكات التي أنقلها له عن أكرم، دون أن أبوح باسمه، فيظنها من صناعتي، ورغم ذلك يضحك وتنفرج أساريره.
وقد حصلت، في سنّ مبكّرة جدّا، على إجازة منه في التفسير والعقيدة، وكنت قادرا على مناقشة الشيخ في الجامع حتى لحظة طردي من مجلسه، وقد حصل ذلك مرتين فقط، لأنني كنت أريد العنب زاهدا في تربية الناطور، لكن جهل المتديّنين بدينهم مضرّ، كجهل شرطيّ ما بروح القانون، فهو أسير الإجراءات، بل وهذا هو القانون بالنسبة له. دعني أقول إن جهلهم كان نافعا لي في النهاية.
أتخيّل أننا لو جلسنا ثلاثتنا اليوم، لحدث شيء عجيب، فرغم أنني كنت على علاقة ثابتة بكليهما، إلّا أن الحالة اليوم مختلفة:
سنجلس ونتحدث عن أخبارنا اليوم، وربما عرّجنا على ذكريات الطفولة، وحينها يقع المحذور، سيبدأ أكرم بممازحة سالم بخصوص شقاوته صغيرا، وكيف أن تديّنه كاذب، من باب “هل تعتقد أنك ستخدع الله بمظهرك!”، ولن يرى سالم في حديثه هجوما، لكنه بعد دقائق سيبدأ بوعظه، معترفا بخطيئاته السابقة، ولا أظنّ أكرم سيبدي اعتراضا كبيرا على كل هذا، سيقول له: “الله يتوب علينا مثل ما تاب عليك!” وسنقول كلنا: “آمين”.
لكن معركة ستشب بدقائق بيني وبينهما بمجرّد عرض الرأي الفقهي المجهول لهما، فهذا يريد أن يسكتني لأن هذا الرأي يهدم صورته عن نفسه بكونه ملتزما، وهذا لا يريد أن أهدم له صورته المتمرّدة عن نفسه.
أكرم الذي كان صغيرا متمرّدا على منظومة الأفكار الدينية، وجد في إقرارها ، والاستفادة من المساحة التي يتركها له التديّن الشعبي بوصفه عاصيا يتوب، ملاذا آمنا من تقييف ذهنه على تلك المنظومة.
سالم الذي كان، وربما ما زال، يعيش حياة مزدوجة، وجد في الالتزام الظاهري بمنظومة الأفكار التي يقرّ بجهله فيها، ملاذا آمنا لكسله، وللحفاظ على طبيعته، فهو يعتقد أنّ أي فعل يفعله، يمكن التكفير عنه بعمرة أو بقراءة الآية الفلانية العدد الفلانيّ من المرات.
إذًا، نحن أمام خارج عن القانون، يقرّ بخروجه عن القانون، ولا يجادل في القانون بذاته، وإنما يجادل في درجة كسره لهذا القانون، وآخر يرى نفسه شرطيا، يطبّق الإجراءات دون أي معرفة بروح القانون ولماذا سنّ بهذا الشكل، وآخير، وهو أنا يجادل كليهما في روح القانون، أي إنه يتعدّى على مفهوم مركزيّ في حياتهما، وبذلك فهو يستحق النبذ.
قد تمرّ السنين، ويأتي يوم يكون فيه سالم أميرا لجماعة ما، ينادي في الناس بالجهاد، فيستجيب له أكرم، ويكون مقاتلا في صفوفه معلنا توبته المنتظرة، لكنّ الذين كانوا من نوعي، ومهما بلغ توافقهم أو خصومتهم مع المنظومة الدينية، بما عرفوا من سعة الآراء التي لا تعرف إجماعا، سيقفون موقف المتشكك، ويستحقون بهذا لقب كافر من الطرفين.
مرة أخرى، هذه لم تكن قصة، بل هي محاولة لمقاربة التديّن من خلال القصة الشخصية لكل منا، فالقصة ليست قناعات، ولا جودة أذهان، وإنما نحن بتديّننا وعصياننا نتاج لتاريخ حيواتنا، الذي امتلكنا سيطرة شحيحة عليه.