متى يكون الخطاب الإنسانيّ هراءً؟

متى يكون الخطاب الإنسانيّ هراءً

كتب هذا المقال أثناء الحرب الروسيّة في أوكرانيا، ومع أنّها ليست موضوع الحديث إلّا أنّها كانت السبب في كتابة هذه السطور، موضوع الحديث واضح في العنوان، لكن بعض الأمثلة يأتي من جوّ هذه الحرب.

1
من طعام العرب في البادية قديما طبق بائد _إن صحّ أن نسمّيه طبقًا_ يسمّى الفصيد، وآخر يأكلونه انتجاعًا أيّام المحل يسمّى العلهز، وكان الأخير كريهًا أكثر من الأوّل، فالأوّل دم يستخرجه الراعي من الشياه أو الإبل ثمّ يشويه فيأكله، والثاني فصيد يجزّ معه الوبر فيشبعه به، ثمّ ينفشه ويشويه. نعم، كانت المجاعة تضطرّهم إلى مثل هذا الطعام.

إقرأ المزيد

رسالة للنقّاد حول الأفلام التطبيعيّة

السياسة تدخل في كلّ شيء، لكن ليس على الجميع أن يدخل فيها.

العابرون للتخصّصات يغرون المتخصّصين بدخول متاهات هم بغنى عنها. في نقاش حول منع فيلم لمجنّدة في جيش الاحتلال، يخرج ناقد سينمائيّ فذّ بمقال حول الفيلم يتورّط فيه بنقاش فكرة منع الفيلم لاختراقه معايير المقاطعة، فيقدّم رؤيته حول فكرة المنع. هنا، يكون الناقد خارج تخصّصه الذي يتقنه، ومن تحدّث في غير فنّه أتى بالعجب.

إقرأ المزيد

شيخ الأزهر والمستحيلات

وأنا صغير سمعت حوارًا بين رجلين من قرابتي، أحدهما مصلّح راديو وتلفزيون، والثاني تاجر شنطة. كان التاجر يسأل: حواليك تلفزيون يكون رخيّص وكويّس وابن حلال؟ فقال له المصلّح: الثلاثة هذه لا تجتمع؛ إمّا أن يكون رخيصا وجيّد النوعيّة، فهذا مسروق، وإمّا أن يكون جيّد النوعيّة وشرعيّ، فهذا له ثمنه المرتفع، وإمّا أن يكون رخيصًا وشرعيًّا، وهذا ذو نوعيّة سيئة.

كبرت ودرست الرياضيّات، فعرفت أنّ هذا النمط موجود في الحياة والفكر، فبعض المعادلات ليس لها حلّ بعدد موجب، أو ليس لها حلّ بعدد صحيح… إلخ، لكنّ بعض الناس يصرّ على ليّ الحقائق ليحصل على تلفزيون تاجر الشنطة.

مسكين شيخ الأزهر، فهو يُسأل عن حكم الشرع كما درسه، فيجيب. ما ذنب الرجل أنّ القرآن صريح في ضرب المرأة؟ ليس في يده إلّا أن يخرجه من الوجوب الذي يظنّه الناس في كلّ فعل أمر قرآنيّ، وهو زاد على ذلك بأن أعاد الأمر لوليّ الأمر والقانون وأنّ الدولة يمكنها منعه.

لو نظرت حركة تحرير العبيد في الدين نظرة كثير من دعاة النسويّة الذين يصرّون على مقولة “الإسلام كرّم المرأة”، لكنّا اليوم نتاجر بالعبيد أو نباع في سوق النخاسة.

سألتم عن حكم الدين (قانون وأعراف دولة يثرب) وجاءكم الجواب الصريح. ليس ثمّة تلفزيون رخيّص وكويّس وابن حلال. القصّة ليست “خاوة”! الآن دور القانون ليجرّم هذا الفعل وإن كان حلالًا في الديانة، هل تعلمون أنّ “التهريب” حلال؟ وهو جريمة يعاقب عليها القانون.

نعم، واجهوا الحقيقة: الديانة الإسلاميّة والأعراف العربية والقضاء العشائري والقوانين في الدول الأخرى وما يتّفق عليه الناس اليوم كلّها مصادر يستند إليها القانون، لكن القانون شيء آخر، كيان مستقلّ عن مصادره.

أمّا معضلة كيف نبقي على تكريم الإسلام للمرأة، فهي كمسألة العبودية، كلّ تخريجاتها توفيقية أو تلفيقية، ولا تمرّ على حاذق، فإمّا أن تتبّع المسألة إلى جذرها، فتكون باحثا في التاريخ العربيّ قبل الدعوة وبعدها، وحينها ستنهار كثير من الصور المتوهّمة لديك، لأنّ مدرّس الدين في الصفّ الثاني ب كان يتجمّل ويقارب، وإمّا أن تعرف حدود القانون في دولتك وتلتزم بها.

أنصحك بتلفزيون ضمن ميزانيّتك!

“نحنحة” في جلسة طرب

في المنصّات يستخدم جلّ العوامّ الحركات للزركشة والتزيين، وقد يكرّر الواحد منهم الحرف من الباب نفسه، وعلامات الترقيم لا تعود للترقيم. هذا النوع من الناس إذا تعلّم الكتابة وظّف أدوات اللغة الأخرى بالطريقة نفسها. البهار عندهم يغطّى نكهة الزمن الذي مرّ على اللحم حتّى شارف على الفساد.

نحن الآن في وقت آخر، لقد تعلّم كثير من هؤلاء الكتابة بالفعل، وزادت الرطانة على حساب المعنى، نصوصهم كجسم راقصة سمينة يترجرج من كثرة الشحم، ويؤدّي حركات بهلوانيّة، فماذا تفعل النصوص الحقيقيّة هنا؟ الأنثى الرشيقة القوام الرصينة الحركة ذات المزاج الحادّ.

يدخل نصّ الواحد منهم ذهن المتلقّي كما تدخل قبّة العصّارة نصف ليمونة، فتمتزّ منها كلّ ما فيها، مع أنّ القبّة في ذاتها فارغة من الجهة المقابلة. أسمع لدى قراءة أحد النصوص عُرَب “أصالة” المجّانيّة، التي لا تلاحق معنًى، ولا تعمّق شعورًا، لا يفضل ابنُ اللغة لدى سماعها الغريبَ بشيء، فكلاهما يسمع محض زقزقة.

مرضى بالرطانة هم، مفتونون بالتقديم والتأخير بلا طائل، يحشدون الكلمات المتباعدة حتّى يفقد القارئ اتّزانه، كأنّها كرات مدفع برنامج الحصن تقذف على فريق المهاجمين وهم يحاولون التوازن على درب ضيق زلق.

مشكلتي ليست في وجود هذا النوع من الكتابة، فهو تمرين جيّد نعرفه، إذ نعتمد التداعي الحرّ، أو موسيقا الكلمات، أو بعض الصور الذهنيّة لنقيم علاقات غير واضحة، ونعتاد التأشير بديلا عن القبض على المعاني. مشكلتي قد تكون متوهّمة، لكنّني أحبّ الغناء الهادئ، وأقدّس العُربة الوحيدة في مقطع رصين، ولي أذن مدرّبة على التقاط النشاز. أرى البهار مساعدًا على إظهار لذّة الطعم الأصيل، أخاف أن يخدعني الطاهي فأشكره على طعم بهارات لحم فاسد. لا أهتزّ طربًا من الرطانة، وليمونة عقلي عجراء لا تدخلها قباب عصّاراتهم. أطرب للفكرة، وأهشّ للطعم الأساسيّ، وأضع الحركة لاستبعاد اللبس، فأجد من يتّهم لغتي بأنّها أقرب للترجمة. يا لها من تهمة رائقة، فأنا أسعى للإفهام، لا الإدهاش. فإذا كان المفهوم مدهشًا، فإنّها لحظة طرب حقيقيّ، بعيدة عن استمناء الصوت عُربًا، تحمل الرطوبة إلى الثمار كأنّها المطر بعد الجفاف.

نعم، أنا صوت النحنحة المتململة في جلسة الطرب الرديء.