ويسألونك عن الشعراء
لا أعرف أين وردت هذه الأسئلة، لكن يبدو أن الجميع متفق عليها، ومتفق على أنها هي أفضل ما يُتوصل به إلى حوار عميق مع شاعر عربيّ، وهي عندما ترد لا ترد على الترتيب، وعلى سبيل التمثيل بالمثال الفج الواضح المغرق في بساطته وسطحيته أورد بعض أسخفها: من تفضل من الشعراء! من تختار بين مظفر النواب وأحمد مطر!! ما موقفك من قصيدة النثر!!! درويش رائع أليس كذلك!!! وتستمر هذا المهزلة من الأسئلة في طيف ممتد بين السؤال عن الحداثة في الشعر العربي، إلى السؤال عن قصة “صوت صفير البلبل”، وإذا كانت أسئلة المرء أدلّ عليه من أجوبته، كما يقول المثل الإنجليزي، فإنها تدل على حالنا البائسة، ليس في علاقتنا بالشعر فقط، بل في فهمنا للفن عموما ووظيفته بشكل عام. أما الأجوبة على ذلك فحكاية أخرى، نعم بالتأكيد لابد وأن الشاعر يملك مواقف نقدية تغطي هذه الأسئلة، لكن هو يبني مواقفه تلك منطلقا من فهم عام للفن الذي يزاوله، وفي حالة الإجابة الحقيقية على مثل تلك الأسئلة، فإنه من اللازم عليه تبيان ذلك الفهم العام للسائل، كي لا يرى في أجوبته مدعاة للاستنكار والسخرية، أو للجدال حامي الوطيس، باردِ الفكر. وكذلك أحب أن أتخلص من هذا العبء وأترك ملامح عامة لفكرتي العامة عن الفن، عن الشعر، وأضرب مثالا واحدا على موقف أستنبطه منها.
وفي الحقيقة لا أستطيع تجاهل أشياء كثيرة منها مثلا نظرة العلم إلى تعامل العقل مع الفن، فقد أضطر للتعريج على العقل البشري في خضم ذلك، مستعينا بكل الجوانب الممكن التطرق إليها، كي لا أكون أنتجت مقالا آخر عن الشعر، فلقد سئمنا القراءة عن الشعر، دون قراءة الشعر نفسه، بالضبط كما نتعلم عن اللغة في مدارسنا دون أن نتعلم اللغة، وكما نضرب أمثلة من جمل غير مفيدة، لتوضيح قواعد اللغة العربية للتلاميذ، من مثل؛ “أكل الولد التفاحة” حسنٌ، هنيئا للولد،ولكن ماذا استفدنا من هذه الجملة! حتى أن حصة اللغة الإنجليزية أيضا باتت تبدو كمعادلات الرياضيات، وكما نتحدث طويلا عن فضائل الصمت دون أن نتذكر أن نصمت نحن قليلا، كل تلك الأشياء التي لا نفعلها بسبب أننا ندعي فعلها، فهذا المقال ليس عن الشعر.
شكل الفكرة
عندما كتب سيد فيلد دليله لكتابة النصوص السينيمائية، لم يكن يبتدع شيئا من عنده، كان فقط قد قرأ الكثير من النصوص، حتى اكتشف تلك المساحة المشتركة بين كل النصوص السينمائية الناجحة، ثم حولها لأسئلة تقودك في النهاية لكتابة نص سينيمائي لا بأس به، من جهة أخرى انتبه (جوزيف كامبل) أيضا للمشترك بين قصص الميثولوجيا القديمة، وكتب كتابه “البطل ذو الألف وجه”، وإذا لم تكن تلاحظ الشبه المريب بين قصة رحلة أخنوخ للسماء، ومعراج الرسول محمد، ورسالة الغفران للمعري، وكوميديا دانتي أليجيري الإلهية، ورسالة التوابع والزوابع، فأنت ربما لم تفهمني حتى الآن!
نخرج من بطون أمهاتنا ونحن لا نعلم شيئا، وهذا لا يعني أننا نجهل عن العالم الذي لم نره من قبل، مقدار ما نجهله اليوم كبارا عن أي عالم لم نره من قبل! الفرق أننا عالجنا الكثير من المعطيات في عالم نعرفه، ورأيناه كيف يتصرف، فإذا أردنا أن نتخيل عالما جديدا فنحن سنقوم بعمل خليط من معارفنا السابقة مستخدمين طرق الخلط التي خبرناها في هذا العالم، فالفضائيون حسب ما تخيل صناع أفلام الخيال العلمي لهم جلود زواحف، ووجوه بملامح بشرية مختلطة، ويد بثلاث أصابع… إلخ، لكن بالنسبة للطفل فهو يعاني مع الإشارات الكهربائية التي تصدرها عيناه إلى دماغه، حتى يتمكن دماغه خلال الأسابيع الأولى من بناء نمط لوجه أمه! ثم لوجه الإنسان عموما، وهكذا يبدأ بملاحظة كل شيء، وبناء أنماط لما يلاحظه، هذه الأنماط هي ما يساعده في فهم ملاحظاته القادمة، فكل ما يراه يحصل على تمثيل عقلي خاص به، ويحلو لي أن أسميه “مصداقا”، وإذا قلنا أن هذا التمثيل أو المصداق هو ما يملأ خانة ما في عقله، فالوصلات بين هذه الخانات هي الصلات بين هذه الأشياء، ودماغ الصغير أغنى من دماغ الكبير بعدد الوصلات، لذلك يقال أننا لا نستغل كل قدراتنا العقلية، في الحقيقة فإن دوام مرور إشارة عصبية يحافظ على حياة الوصلة، بينما تموت الوصلات التي لا تستخدم، وعلى هذا المنوال نحن نخسر من أدمغتنا لنكسب عقولا.
نمط مجموعة من الوصلات هو شكل فكرة ما، الاستنتاج الاستنباطي مثلا هو شكل واحد من أشكال الفكرة، يمكن تطبيقه على عدد لا نهائي من المعطيات، منطق نكتة ما هو شكل فكرتها، معادلة النص السينيمائي الناجح عند سيد فيلد هي شكل فكرة، تكامل معادلة رياضية هو شكل فكرتها، وهكذا شكل الفكرة هو تمثيل ألطف للفكرة مجرد من إحداثياتها، لنقل أنه مثلا، فكرة الصداقة بغض النظر عن شخوص أطراف هذه الصداقة، أنموذج المغالطة بغض النظر عن تجلياتها، صرف الجملة بغض النظر عن نحوها، النحو بغض النظر عن المفردات، الميزان الصرفي للكلمة بغض النظر عن جذرها، هكذا فتكامل قصص مثل المعراج ورحلة أخنوخ ورسالة الغفران، والكوميديا الإلهية، و التوابع والزوابع، هو شكل هذه الفكرة وهو شكل واحد، وللتفريق بين اللاشيء الذي نعلمه عن حيوات أخرى في الفضاء، و اللاشيء الذي يعلمه الطفل عن العالم، فهو في حالةالطفل العدم المطلق، لا شيء بالفعل، ذلك اللاشيء الذي لا تدرك كونه لاشيء، وهو غير اللاشيء الذي نتخيله نحن، فهو ليس عنده أي معطيات ليبني على شكل فكرتها أو نمطها، وهذه الفكرة التي قرأتها لتوّك حول الفرق بين بين اللاشيء واللاشيء الآخر هي تطبيق لنمط فكرة المقارنة بين قيميتين غير معرفتين في الرياضيات!
توليف مذياع العقل
وضعت البطارية في مذياعك الجديد، ولكنه لم يبدأ فورا باستقبال بث الإذاعة التي تريد، أنت تحتاج لتوليفه، عملية التوليف هي ضبط تردد جهاز الاستقبال على تردد البث، والتردد هنا مشتق من طول الموجة الحاملة، التي تحمل موجة الإشارة، الأغاني أو نشرة الأخبار هي موجة الإشارة التي تريد استقبالها، لكنك مضطر أن توافق بين تردد مذياعك و تردد الموجة الحاملة أو تردد البث، في العقول الأمر مشابه كثيرا، مختلف قليلا، والاختلاف آت من كون عقول الناس تضبط على توليفات محددة في الصغر، تردد التوليف محكوم باللغة الأم، وثقافة القوم الذين ينتمي إليهم العقل… إلخ، فجهاز البث هو الذي يريد أن يولف نفسه حسب تردد جهاز الاستقبال، أي أن عملية الاتصال محكومة بتردد المستقبل وليس بتردد المرسل، دعني أعترف أن هذا غير دقيق تماما، لأن العقل يستطيع إكمال المنقوص ولكن هذا يحدث أيضا طبقا لأنماط متوقعة، أو مستقرأة، يتم انتقاؤها من الأنماط التي يعرفها العقل أصلا، حتى لو كانت تقع ضمن المُغرب وغير المألوف، فكما أننا لا نجهل تماما العوالم التي نجهلها، ففي هذه الحالة يحق لنا أن نقول أن هذا المُغرب وغير المألوف هو ليس تماما كذلك.
تخيل قناة بث إذاعي تبث في ترددات غير إذاعية، قد تستقبلها إن امتلكت جهازا آخر من ترددها، لكنها غير موجودة بالنسبة للمذياع، وهي في أفضل الحالات تبث تشويشا بالنسبة له، هكذا أفهم قول بشر بن المعتمر في رسالته لكتاب زمانه ” إن البليغ هو من جاء بمعنى لا يصعب على العامة” ويتم قوله ” ولا يلطف على الخاصة”، وهنا أنا أعني الجزء الأول من مقولته.
معادلة الفن
في معرض للفنان زيد تتموضع بكامل أناقتها فخّاريّة تعتبر من أهم القطع الفنية، يقول عنها النقاد أنها لا تقدر بثمن، وعلى الطريق المؤدي إلى المعرض هناك بسطة فخاريات كبيرة، تباع فيها الفخارة بفلسات! ولو أردت أن تكون سطحيا بطريقة ظريفة، ستقول ماذا لو أن الفنان زيد كان يتدرب عند الحرفي ذاته الذي يملك بسطة الفخاريّات، ثم تتفاجأ بأنها الحقيقة، فماذا ستكون ردة فعلك؟ لعلك ستبدأ بالتفريق بين الحرفة والفن!
ستقول لي أنت لا تدرك الأبعاد العميقة لقطعة زيد، فهو حاول أن يخلط بين الفخاريات الشرقية في الصين و الفخاريات الأثرية من حضارة المايا، وهو بذلك يحمّل قطعته الفخارية مقولة ورأيا خاصا في التاريخ، وجهة نظر عن الثقافات وعلاقة الماضي بالحاضر، وعلاقة الشرق بالغرب، أما تلك في محل الفخاريات فهي بسيطة وظيفية لا تقول شيئا، قد تكون متقنة وجميلة على نحو ما ولكنها فارغة. هكذا أفهم تتمة مقولة بشر بن المعتمر في وصف البليغ : ” ولا يلطف على الخاصة” أي أن الخاصة أو النخبة لا يرونه قولا سهلا فارغا.
وهكذا أستطيع أن أقول أن الفن هو الفلسفة المعبر عنها بحرفة، أو الجمال الحرفي الذي يحمل بعدا فلسفيا، وهذا حسب معادلتي الخاصة بفهم الفن “الفن = الحرفة + الفلسفة” حيث الفلسفة هنا ليست فقط حب الحكمة، لكنها وجهة نظر أعمق من السطح، فالفن المجرد من الفلسفة محض حرفة، والفن المجرد من الحرفة يتساوى مع خربشات التداعي الحر التي تقوم بها يدك بشكل لا إراديّ وأنت تتحدث على الهاتف، ولا يوافق على هذه المعادلة من يسمي شيئا بشعا وغير متقن الصنع فنا، فقط لأنه صدر عن فلان الفنان المشهور، ويبدو أن الجدل مع أمثاله عن الشكل والمضمون جدل لا نهاية له، مع أنه نضج حتى احترق.
الآن لنتحدث عن الشعر بوصفه مثالا على الفن
لن أضرب أمثلة من الشعر العربي لأن هذا المقال كما اتفقنا ليس مقالا آخر عن الشعر، لكنك لن تعدم أن تجد في الشعر العربي مثالا على تخميس قصيدة أجود وأجمل من القصيدة ذاتها، أو مجاراة أجمل من الأصل، أو ردّا أبلغ من القول، أو حديث زمان أتى بما لم تستطعه الأوائل، ويكفيك أن عنترة الجاهلي بدأ معلقته بأن الشعراء لم يغادروا متردما، ولم يتركوا قولا إلا قالوه، لكنه استمر بها أبيات كثيرة وهو يأتي بشعر رائق فذ! ولو سألت التاريخ الإنساني أو حتى تاريخك الشخصي لوجدت العقل يعمل بكفاءة تحت الضغط، فقولهم “الحاجة أم الاختراع” لم يأت من فراغ، فالذي أدركه عنترة من صعوبة للشرط الفني في مطلع معلقته قاده إلى المزيد من الإبداع. ماذا لو لم يطلع عنترة على أي شعر قيل قبله! ماذا لو لم يلاحظ أن كل ما يعتلج بنفسه اعتلج بنفس شعراء سبقوه! ماذا لو لم يعرف أي ميزات للشعر الذي يستحسنه الناس ويذهب سائرا بينهم يعبر الزمان والمكان! هل كان سيقول شعرا بهذه الروعة!
ولعلك تذكر عزيزي القارئ قصة أبي نواس مع خلف الأحمر، التي تقول أنه طلب منه أن علمني أن أقول الشعر. فما كان من خلف الأحمر إلا أن أمره ليذهب فيحفظ كل ما قيل من الشعر، ثم لما أتاه قال له اذهب وعد لي بعد أن تكون نسيته، وهكذا حفر خلف الأحمر أنماطا وأشكال أفكار في عقل أبي نواس، ولما عاد وقد جرده الخمر والنسيان من محتوى هذه الأفكار، أمره أن يقول ما يعتلج في صدره شعرا، فكان أبو نواس! وقد لا تكون هذه القصة حقيقية بمصاديقها وشخوصها وأحداثها، لكنها أكثر من حقيقية لدرجة أنك تستطيع لمسها بيدك في شكل فكرتها، وهل نتعلم اللغة والحديث إلا بنفس الطريقة!
بين الحداثة والجِدّة
لنكن واضحين هنا، الفصام الذي يعاني منه كل فرد فينا، نعاني منه كمجتمع أيضا، فمثقفونا لا تنطبق عندهم كلمة “الحداثة” على نفس المصاديق التي تنطبق عليها الكلمة عند العامة، فالحداثة مصطلح له ما له من تاريخ وضرورة حضارية وسياق تاريخي وسيرورة زمنية ونطاق جغرافي ثقافي متعلق بأحداث أسفرت عنه، أما في أذهان العامة، حيث تصنيف العامة يشمل الكثير ممن لا يظنون أنه يشملهم، فالحداثة تعني نقيض القدم، تعني التجديد والتغيير نحو ما يرونه الأفضل، ولا يتصل عندهم الأمر بالسياق التاريخي الانتاجي الصناعي والمراجعات الدينية والفلسفية ولا بالبيئة التي نشأ فيها المصطلح أو مصداقه، فالحداثة ككلمة متداولة مجردة من مصداقها، ويتم تلفيق مصداق لها في عقول العامة من النقاد والشعراء والصحفيين ومفكري الفضائيات، لكن من يعي مصداقها الحقيقي يستحيل عليه أن يسأل عن رأيك في “حداثة” في الشعر العربي.
أما المصداق الحقيقي لمصطلح الحداثة الذي بقيت تلوكه الألسنة وتُكتب لأجل أن تلبي عياراته المفترضة دواوينُ “الشعر”، فهو تشكل عند العرب بعد تداوله، يعني أنه على عكس وظائف الدماغ الطبيعية، التي تقتضي إدراك المصداق أو على الأقل وجوده قبل نشأة المصطلح الذي سيعبّر عنه، هنا نشأ المصداق بعد المصطلح، فبات هناك شيء يدعوه النقاد العرب “حداثة”، وهو شيء آخر غير الحداثة الأوروبية وأنا شخصيا أنظر لكليهما على أنه لاشيء، ولكن هناك فرق كما أوضحت من قبل بين لاشيء ولاشيء آخر، فاللاشيء الذي يناسب الحداثة العربية هو عدم مطلق، مجرد هراء وهرطقة، نجمت عن عقدة الخواجا، وليس لأحد الحق في أن يحدثني عن حداثة حقيقية عربية قبل أن يصنع العرب قنبلة نووية مثلا!
أما ما امتدحته الذائقة العربية السليمة فهو الجِدّة، أي الإتيان بجديد على مستوى الفكرة والصورة والمفردة والقالب … إلخ، وقد يشمل ذلك الوزن أيضا. لكن ليس كل جديد جديد، فقد أكتب تتابعا عشوائيا من الحروف وأقول لك انظر لهذا البيت ما أجدّه، نعم هو جديد، لكنه ليس شيئا جديدا، هو بالضبط (لاشيء) جديد! وكذلك الكثير من القطع الفنية التي تلقى مديحا هائلا من النقاد، الذين أعملوا عقولهم في تلك القصائد حتى وجدوا لها معنى، كما يُعمل عالم رياضيات عقله في مجموعة عشوائية من الأرقام حتى يكتشف اقترانا ينتظمها، حيث كل مجموعة عشوائية محدودة العدد من الأرقام لها عدد لانهائي من الاقترانات كثيرة الحدود التي تنتظمها، لكن عالم الرياضيات يعلم يقينا أن هذه الاقترانات لم تكن مقصودة، بل هي وليدة مبدأ معروف وهو أن العقل البشري يدرك العالم ضمن نظام أو كما يقال “من طلب معنى وجده”. الجديد الذي على الشاعر العربي الإتيان به، لابد أن يكون ابتداءا جملةً مفيدة، لابد أن يجد الشاعر ما يقول، ثم ينساب ما يريده في قنوات ذهنية حفرتها كثرة القراءة والحفظ وشحذ الذائقة وصقل الموهبة، ويخرج مولّفا على تردد الأذن العربية ذات الذائقة السليمة، ثم بعد ذلك عليه أن يلبّي متطلبات صعوبة الشرط الفني، فيأتي بجديد حقيقي، على أحد المستويات أو جميعها، وقبل كل ذلك لابد أن يقوله الشاعر عفو الخاطر، دون قسر أو تكلّف أو تصنع.
أنواع أدبية جديدة ولاشيء آخر
ما يسمى بفن التفعيلة هو ضرب من ضروب القول ينساب في أوزان من جنس الأوزان التي ينساب فيها الشعر العربي، أي أنه نوع (أصيل) وإن كان غير (أصليّ)، حيث الأصيل من الأصالة، والأصليّ من الأصول، لكن مكتشفي هذا الفن يعانون من عقدة يسميها د.نارت قاخون “عقدةَ كولومبوس” فهم مثل كولومبوس تماما اكتشف أرضا جديدة لكنه بقي يسميها الشعر ، آسف أقصد الهند! حتى أن شعوب أمريكا الأصليين من الشيروكي والآستيك والمايا مازالوا يسمون هنودا!!! ففن التفعيلة أرض جديدة لكنها حقيقية يمكن زراعتها وسكناها والتعبير بواسطتها ووجدت شعراء حقيقيين يغرزون رايتها عالية، ومن جهة أخرى بالطبع وجدت الكثير من الأدعياء الذين يفتقدون أحد أركان معادلة الفن إما الحرفة وإما الفلسفة، وبعضهم يعاني من أمراض أخرى مثل استمرار عقدة الخواجا فيكتب قصيدة موزونة لكنها تشبه الأدب المترجم، أو لعلها كتبت لكي تترجم وتكون صوت “القضية الفلسطينية” مثلا ليسمعها العالم، فيحرر لنا أرضنا!!!
أما ما يسمّى بقصيدة النثر فهي في نظري لاشيء حقيقة، ولو أن مبدعين كبارا كالماغوط خلقوا لها شرعية بروعة ما كتبوا من روائع نثرية من العجب أن تسمى شعرا، إلا أن السمت العام لما يكتب فيها هو جمل غير مفيدة، وبث لا يستقبله المذياع العربي، لأنه ليس من تردده، وما يمكن أن يستقبله فهو على تردد الخاطرة وليس له علاقة بالشعر لا من قريب ولا من بعيد، وينقصه صعوبة الشرط الفني ليلبي مطلبين رئيسين، أحدهما يخص الكاتب المرسِل، والآخر يخص المتلقي؛ أن ينساب في قنوات وعي كالماء الجاري _الذي يطهر بالجريان على فكرة_ عند الكاتب، وعند المتلقي أن يوافق تردد موجة حاملة كي يستقبل عليها موجة الإشارة، وإلا فهو مجرد أصوات خلقت لها عقدة الخواجا قيمة لأنها ارتبطت بمفهوم الحداثة، وحتى يكون لها ما لغيرها من أنواع الفن من صعوبة الشرط الفني، فليس من الجدوى في شيء الحديث عنها، وحتى بعد ذلك فستتم محاكمتها طبقا لشروطها ولعلاقتها بسياقنا الثقافي وتاريخ التمويل المشبوه الذي دعم مجلاّتها الأولى، ولكونها ابتداءا تحمل في طياتها معنى أم لا أو تحقق شرط الجملة المفيدة أصلا، فهي في أغلبها حتى اليوم في منزلة دون الكلام، تحاول أن تكون قولا.
وكل سبب العصبية لها في رأيي هو أنها تشكّل نسبا مزورا لكل دعيّ، وأكثر ما يغضب الدعيّ أن تشكك بنسبه، فهي بوابة لكل من لا يحسن شيئا أن يصبح شاعرا!!! حسنٌ يا أخي أنت الشاعر الذي لا يشق له غبار لكن أعرنا سكوتك، أو أخفض صوتك ما دمت لا تصدر غير النشاز، وأعدكم أنني سأسمي كل من لا يصدر أي صوت شاعرا، فلعله يوفر على البيئة كل هذه الأخشاب التي تقطع لكي تطبع “دواوين شعر” فارغة من المضمون وحتى من الكلمات، فإذا أعدت صف كل انتاجه اللاشيئي هذا، على برنامج الطباعة فهو بالكاد يملأ صفحتين، وفي الختام أقول حسب فهمي العام للشعر، لمن سيسألني مستعينا بذلك الكتالوج عن رأيي في “قصيدة النثر” مثلا: كيف أعطيك رأيي في اللاشيء!!!