“طبيعة الحال” تفرض نفسها

كان في إحدى الجرائد المصريّة زاوية كوميدية صغيرة تحت اسم “بطبيعة الحال”، أذكر منها: “بطبيعة الحال، لمّا ابن القهوجي يعوز يرضع، إنّه يصفّق لأمّه!”. طبيعة الحال هنا تعبير شعبيّ يقابل تعبير “طبيعي”، لكنّه في الأصل تعبير لغويّ مختلف، وهو يفصل بين طبيعة الناس، أو ما يُرى على أنّه طبيعيّ بالعادة من جهة، وبين ما هو آت من الحال، أي ما تفرضه الظروف.

اليوم نشاهد دعاوى أخذت أكبر من حجمها وهي تنزل في مراحيض التاريخ، فالواقع لا يعترف بها:

  • اللبناني فينيقي، لا عربيّ.
  • المصري فرعوني، لا عربيّ.
  • الشاميّ سريانيّ، لا عربيّ.
  • المغاربيّ أمازيغي، لا عربيّ.
  • العراقي آثوري، لا عربيّ
  • الفلسطيني ليس بعربيّ، ولا علاقة لعرب الخليج به.
  • البلد الفلانيّ أوّلًا…

إلى آخر هذه القائمة من الأوهام.

مليارات أنفقت على مرّ الزمن في الإعلام، وفي المؤسّسات التربويّة لجعل العربيّ يهرب من حاضره إلى الأمام، أو إلى الوراء في الزمن، أو يتقوقع على حاضر منطقة سكنه الضيقة، ودولته القطرية، ذهبت كلّها إلى مصير يشبه الحرق.

كتبت هنا في هذه المدوّنة من قبل عن “الأمّة الواحدة”، ولماذا نسمّيها “عربيّة” مع انفتاحي على أيّ تسمية أخرى، ووضّحت رأي البيولوجيا والألسنية والتاريخ في أنّ سكّان المنطقة التي نسمّيها اليوم وطنًا عربيًّا هم أمّة واحدة، حتّى إنّ التنوّع في اللغات على مرّ الزمن، وفي الحواضر المغلقة يعود كلّه إلى أصل واحد مشترك مع العربيّة الحديثة، وتسمّى لغات آفرو-آسيوية، وكنت آنئذ أردّ على الدعوات الانفصاليّة الانغلاقيّة، المتكرّرة بصورة مقرفة.

ومع أنّني لم أزل أرى أنّ الردّ العلميّ على هذه الطروحات مهمّ، فقد رأيتها تتبخّر أمام كثافة الواقع، لقد رأى العرب في كلّ الأقطار موقفًا مشرّفًا من المقاومة التي يصطبغ أغلبها بصبغة إخوانيّة مقيتة عندهم، فالتفّوا حولها متناسين كلّ ما حدث سابقًا. إنّهم رأوا شعبًا ينتفض غضبًا، ويقف موقفًا ملحميًّا مع ضيق ذات يده، بل وينجز من أسباب القوّة ما لم يستطع أصحاب الملايين من الناس والمال أن ينجزوه.

العربيّ الذي يقبل دعاوى التفرقة والتمييز يغترب عن واقعه، ثمّ يشعر بلذّة قصوى لدى رؤية فرصة أن يكون كما هو، إنّها لذّة أن تفرض على التاريخ قبولك كما أنت دون تحريف. نعم ثمّة حواضر ذات خصوصيّة داخل كلّ بلد عربيّ، ولكنّ العرب انتشروا منذ القدم في البقاع العربيّة كلّها، وباتت لغتهم لغة التجارة، ثمّ لغة الدين، ثمّ اللغة الرسميّة لكلّ قطر عربيّ، وهم من النسيج المشترك في هذه المنطقة، وهم أيضا النسيج الضامّ الذي يجمع الحواضر المختلفة ببعضها. لا مانع على الإطلاق من أن أقول إنّني شحريّ عربيّ، أو من حضارة وادي النيل وعربيّ، أو فينيقي عربيّ، أو أمازيغيّ عربيّ، فالتاريخ ليس نقطة بلا أبعاد!

التاريخ الذي تشكّلت هويّاتنا أو هويّتنا المتنوّعة فيه أوسع طولا وعرضًا من أن يكون نقطة مجمّدة في الفراغ. إنّ قبولنا لتاريخنا غير ممكن دون أن نقبل واقعنا، نحن أمّة واحدة رغم أنف كلّ قرش أُنفق على إعلامنا وكروشنا لكي ننسى أنفسنا. وطبيعة الحال اليوم هي وحدة حال.

وكما أسلفت في المقال الذي سبق هذا مباشرة، فإنّ المقاومة أكبر من أن يضعها طرف في جيبه، الصاروخ الذي يطلقه القسّاميّ أو الجبهاويّ على الكيان المحتلّ، قد يكون صمّمه روسيّ مناهض للهيمنة الغربيّة، وصنّعه إيرانيّ شيعيّ، ونقله قوميّ عربيّ بعثيّ، بل إنّ مطلقه قد يكون شابًّا عربيّا من غزّة لا يرى في فكرة حماس إلّا فرصة لمقارعة المحتلّ، ولو كنت أنا في غزّة لانضممت لأيّ جهة تعطيني فرصة أن أقاوم مع كلّ كرهي لطروحات جمأ “جماعة الإخوان المسلمين”.

إذًا، طبيعة الحال التي جعلتني أضع أي خلاف مع أخي جانبًا، جعلت غيري من العرب على مساحة الوطن الكبير يضعون خلافاتهم وتخوّفاتهم جانبًا، فرأينا المظاهرات ومحاولات اقتحام الحدود، ورأينا أيضا على وسائل التواصل “تريندات” في كلّ بلد تناقض ما يتوقّعه اليائس:

  • انفجر أهل السعوديّة غضبًا في وجه معلّم قال أشياء فُهمت على أنّها تشكيك في شرعيّة التضامن.
  • انفجر المصريون غضبًا في وجه دعوى التخلّي عن القضيّة الفلسطينيّة، وسيطروا على الوسم وملؤوه بكلام مشرّف.
  • اللبنانيّون اجتازوا الحدود بالفعل وقدّموا شهداء.
  • السوريّون عبروا الحدود وصافحوا إخوانهم في الجولان المحتلّ.
  • كسر الشعب الأردنيّ خطًّا أحمر رسمته السلطة حول السفارة. محته أقدام المتظاهرين غير المسيّسين، واجتاز بعضهم الحدود.
  • إلى آخر ذلك كلّه… ولا أرى له آخر.

بيننا وحدة حال، هي أقوى من كلّ التنظيرات، فحتّى الإماراتيّ الذي يقع في أعلى سفح هرم ماسلو للاحتياجات البشريّة يرى أنّ احترام الذات وتحقيق الذات أمران غير ممكنان دون أن يمتلك رأيًا مستقلًّا، وأثق أنّنا سنرى لأهل الإمارات مواقف مشرّفة تليق بعروبتهم.

إنّ من أطرف ما يقال في الوحدة العربيّة: إنّ أعداء العرب يتعاملون مع العرب في كافّة الأقطار وفق “دليل تشغيليّ” موحّد، وهذا أكبر دليل على أنّنا أمّة واحدة.