هذا تأمل في الدلالة الشعبية لمفهوم الأعور الدجّال، أمّا عن الأعور الدجال الذي يرد في الأحاديث فقد نشرنا مقالة مطوّلة توضّح استحالة صحة أخبار الأعور الدجّال من جهة المتن والسند، وكان هذا في مقال مطول كتبه السيد حسن السقاف أحد أئمة أهل السنة والجماعة، تجدون رابطه أسفل هذه المقالة.
لماذا أعور؟ ولماذا دجّال؟
قد تكون المسألة في الأصل نوعا من عدم قبول الاختلاف، فنحن نجد أن الوحوش في التراث الشعبيّ مختلفة عن البشر بصورة ظاهرة، رجل مسلوخة، ظهر أحدب، أنياب طويلة، إلى ذلك من المظاهر الشكلية. إلا أن الناظر في الأمر يعرف أن هذه الوحوش أوجدها الخيال الشعبيّ لتعوّض نقص قدرة التجريد عند الأطفال، ولهذا فهي تجنح إلى تجسيد المجرّد، توصّلا إلى القدرة على تجريد المجسّد.
تجريد الأعور
لو حاولنا أن نجرّد مفهوم العور، سنرى أنه الإبصار بعين واحدة، حيث نرى جزءا من الصورة الكاملة، أي أننا لا نرى الصورة الكاملة، وهو أيضا إبصار من وجهة نظر واحدة، فلكل عين موضعها الذي يعطيها ميزة رؤية وجهة نظر مختلفة، أي أن امتلاكنا عينين اثنتين هو ما يسمح لنا أن ندرك الأبعاد. تستطيع تجربة تلقّف كرة مقذوفة لك وأنت تغلق عينا، وستعرف أنّ قدرتك على تحديد موضعها تتضاءل.
إذن، الأعور يرى جزءا من الصورة ولا يراها كلها، ويرى من وجهة نظر واحدة، ولا يدرك الأبعاد.
تجريد الدجّال
الدجل في الأصل التغطية، ولهذا سمي النهر دجلة لأنه كان يفيض فيدجل الأرض أي يغطيها، وتقول العرب عمن يطلي الناقة بالقطران ليعالجها من الآفات مدجل.
لذلك فالدلالة التداولية لكلمة الدجّال لا تتساوى معها في كلمة الكذّاب. الدجّال هو من يغطي الحقيقة بأشياء أخرى، وليس من يزيّف الحقيقة بالكذب.
إذن، الدجّال هو من يمنع الناس أن يبصروا الحقيقة كما هي، لأنه يغطي جزء منها.
أعور+ دجال
هنا نتحدث عمّن يرى في الأصل صورة معيبة عن الحقيقة، ينقصها تعدد وجهات النظر، وينقصها إدراك الأبعاد، وينقصها جزء من الصورة الكلية. هذا لأنه أعور. في الوقت نفسه هو يغطي الحقيقة بما عنده، فيمنع الناس من إبصارها، لأنه دجّال.
يمكن ببساطة أن نجرّد المفهوم فنرى الأعور الدجال على أنه أي شيء قادر على فرض رؤيته المنقوصة على الناس، وتغطية ما نقص من الحقيقة بكثير من الهيلمان.
حسنٌ، من هو إذن؟
في كل زمن سنجد أنه ثمة أعور دجال، قد يكون قيادة سياسية، أو دينية، أو فكرية، تفعل ما يفعله الأعور الدجال. أظنه كان في الماضي القريب التلفاز الذي ينقل جزءا منقوصا من الحقيقة، ويفرض تفسيراته وتتمتها على الناس.
الإعلام الحديث كله قد يكون الأعور الدجال أيضا، فهو بقنواته الفضائية ومنصاته للتواصل الاجتماعي ينقل جزءا من الصورة الكلية ويكملها بما عنده من دجل.
إذا كنت تظنّ أنك تعرف حقيقة السياسة في بلدك، أو حقيقة ما يحدث في الصين مع الإيغور، أو حقيقة ما حدث ويحدث في سوريا، فأنت ضحية لأعور دجال، وإذا كنت تساهم في نشر هذه “الحقيقة” المفترضة، سواء بمشاركتها أو بالإعجاب بها أو حتى برؤيتها فأنت جزء من الأعور الدجال هذا.
روابط مهمة:
مقال مثلث الخرافة