تقول الآية 13 من سورة الحجرات: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ). ورغم كثرة الاستشهاد بهذه الآية إلّا أنّه لا يوفّق لمعناها إلّا ندرة من الناس. أقول “ندرة من الناس” لأنني لا أجرؤ على نفي إدراك المعنى عن جميع الناس، لكني لم أشهد من يلتقط معناها كما يجب.
قبل البدء بمحاولة تعبير الآية إلى الفهم المعاصر، لابدّ لي من توضيح منهجيّ يتعلّق بطريقة الفهم التي أراها مناسبة.
شروط القراءة
نتحدّث هنا عن القراءة بوصفها طريقة للفهم، أي ما يغلب عليه تسمية “التأويل” بين الناس اليوم، وهي التسمية التي أرفضها، لأنّ التأويل مفردة مشتقة من المآل، وفهمها على أنها قراءة أو فهم أضرّ بقراءة القرآن بصورة جذرية. فقد ورد في مطالع سورة آل عمران أن القرآن يقرّ بوجود “آيات محكمات وأخر متشابهات”، وأن “الذين في قلوبهم زيغ” يتبعون المتشابهات طلبا للفتنة والتأويل، وورد، بعد ذلك مباشرة، أن هذه المتشابهات لا يعلم تأويلها إلا الله.
فإذا كان التأويل مرادفا للفهم، فإن الآية تقتضي أن في القرآن ما لا يفهم، وهذا سبب رفضي لهذا المعنى.
وحتى أبيّن الأمر في أوضح صورة، سأخبركم أن هذا المعنى يتعارض مع ما يخبرنا به القرآن عن نفسه بكونه مبينا وعربيا، أي أنه خال من الطلاسم. هنا نواجه سؤال: كيف نفهم كلمة التأويل إذًا؟ أقول: إن المتشابهات من الآيات هي الآيات التي يظهر أنها تتكرر أو تسرد حدثا واحدا، وهي في كل مرة تذكر طرفا من القصة الغيبية ذاتها، سواء كانت غيبا لأنها من الماضي أو من المستقبل، فنجد موسى مثلا يقول شيئا في سورة ما، ثم يقول في سورة أخرى تتناول الموقف نفسه شيئا آخر. وهذه فرصة من في قلبه زيغ عن القرآن أن يطعن فيه ويبتغي الفتنة طالبا مآل ما قاله موسى أو غيره. أي ما يؤول له قول موسى.
هكذا نعلم أن الأمر غير متعلق بالفهم، إذ تستخدم كلمة تأويل مرة أخرى في القرآن بمعنى بلوغ المآل (… يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ…) أي يوم ظهور الأمر الذي يخبر به، وبلوغه مآله يوم القيامة.
لكل ما سبق، أستخدم مصطلحات “قراءة” و”فهم” و”تعبير” لنقل الحاجة للشرح إلى عقل المتلقي لا غموض النص. وهنا لا بدّ من توضيح شروط القراءة:
- أن تتسق قراءتنا لآية ما مع ما يقوله القرآن في مواضع أخرى.
- أن تكون القراءة ضمن سياق الآية، بوصف القرآن كلاما فصيحا، لا شذرات مجزّأة.
- أن تتسق القراءة مع الاستخدام العربي للتراكيب والمفردات.
- أن تبدأ من هذا العالم المنظور وتنتهي إليه، لأن إدخال الغيب فاعلا في الفهم يفسده.
ضمن هذه الشروط سنتناول قراءة قد تكون مفاجأة لكثير منا للآية في مطلع المقال.
تعبير آية التعارف
المفردات 1
الناس: هم بنو الإنسان الذين يبلغهم هذا الخطاب، وهم في ذلك الوقت العرب الذين تصل دعوة محمد لهم.
خلقناكم من ذكر وأنثى: أي خلقناكم بنوعين هما الذكر والأنثى، وهو المعنى الذي أتبناه، وقد تفهم على أنها في بيان أصل الإنسانية وهو ذكر واحد وأنثى واحدة.
جعلناكم: صيّرناكم، أو حوّلناكم إلى.
شعوب: جمع شعب وشِعب، والشَّعب هم ساكنو الشِّعب. أمّا الشِّعب فهو المنطقة الجغرافية كشعب بني عامر وغيره من الشعاب أي المناطق. هكذا نعرف أنه يقصد بالشعوب المجتمعات التي بينها صلة جغرافية.
قبائل: جمع قبيلة، وهم جماعة متنقلة من البدو، لا يربط بينهم نطاق جغرافيّ، بل يتصلون عن طريق النسب.
ما تقوله الآية حتى الآن في ضوء ما سبق
يا من يسمع هذا النداء إننا خلقناكم ذكورا وإناثا من أصل واحد، وقسّمناكم إلى مجتمعات تتصل جغرافيا أو عن طريق النسب…
المفردات 2
لتعارفوا: أي لتتعارفوا، ومعنى تتعارفوا ليس آتيا من التعارف المشهور اليوم، أي ليس لتتعرّفوا ببعضكم. المقصود أن تتفقوا على أعراف مشتركة.
أكرمكم: أعلاكم منزلة.
عند الله: أي في ميزان الله.
أتقاكم: أكثركم اتقاء، أي تجنّبا لشيء ما نعرفه من السياق.
يجدر هنا الاستطراد في صلة فكرة الأعراف المشتركة بالتقسيم إلى مجتمعات: الفكرة أن الثديّات الأخرى القريبة من الإنسان لم تتمكن من تشكيل مجتمعات تزيد أعدادها عن مئة. ذلك لأن الفرد منها لا يثق بالفرد الآخر إلا إذا عرفه، وعدد الأفراد التي يمكن أن يعرفها الفرد لا يجاوز هذا العدد. فإذا بلغ القطيع عددا أكبر من هذا تفرّق القطيع.
أما الإنسان فقد طوّر فكرة الأخلاق المشتركة، أو الأعراف، وبات يثق بغيره من خلالها، فتمكن من إنشاء مجتمعات ضخمة الأعداد. هكذا نصل إلى معنى الاتقاء هنا، وهو تجنّب اختراق العرف المتفق عليه في المجموعة، الذي يؤدي إلى أذية الغير.
أخيرا فإن أسماء الله المستخدمة في سياق ما، تناسب هذا السياق عادة. ولذلك فالعليم الخبير هنا أتيا من باب أن الله يعلم أعمالكم وظروفكم ونواياكم، ولذلك هو عالم بحقيقتها. أي حتى لو استطعتم خداع بعضكم بإظهار التقوى كذبا، فهو يعلم.
سياق الآية أتى في معرض الحديث عن الأخلاق المطلوبة من مجتمع الرسول، لا سيما وأن بعض أهل المدينة تجاوز حدود الأخلاق برفع الصوت في استعجال الرسول ليخرج إليهم، أو ليسمعوه وزوجاته ما يتحدثون به.
ما تقوله الآية كاملة
يا من يسمع هذا النداء إننا خلقناكم ذكورا وإناثا من أصل واحد، وقسّمناكم إلى مجتمعات تتصل جغرافيا أو عن طريق النسب، وهذا من أجل أن تنشئوا المنظومات الأخلاقية التي تكفل لكم أن لا يضايق أحدكم غيره. إن أعلاكم منزلة عند الله هو أكثركم تجنّبا لاختراق روح هذه القوانين والأعراف، ولا تخافوا الظلم فالله يعلم نواياكم وصدقكم وظروفكم.