التبسيط والذهن الخطّي

كلمة “خطّي” جاءت من علم الرياضيات، حيث يقع الخطّ المستقيم، في ذهن الرياضيين (المشتغلين بالرياضيات)، إذ ليس له وجود في العالم الحقيقي إلا اصطلاحًا، وهذا الاصطلاح اللفظي والتواطؤ الجمعي على فكرة الخطّ المستقيم له بذرة حقيقة طوّرها الذهن فصارت شجرة فيه، فالواقع فيه قطع تشبه القطعة المستقيمة، ومفهوم الامتداد أيضا موجود، وكذلك مفهوم حدود الإدراك التي اشتقت منها فكرة المالانهاية.

أما وصف التفكير بأنه خطّي فهو تشبيه يشير إلى توقف الأنماط التي يقيس عليها الذهن عند النمط الخطي، الذي يقع بين النقطة والمنحنى، ومن فوقها المساحة والحجم، ثم البعد الرابع إلى عدد أكبر من الأبعاد.

في النمط النقطي إما أن يكون الشيء موجودا أو غير موجود، وهذا النمط مسؤول عن الثنائيات التي تسكن أذهاننا في هذه البلاد، فيقال: إما مؤمن أو كافر، وإمّا غنيّ أو فقير، وإمّا وطنيّ أو خائن. هذا النمط  حبيس الأحكام والأيدولوجيات، فالحياة الواقعية البسيطة جدّا أكثر تعقيدا منه.

لذلك أسمّي ما أنا بصدد التطرق له “الذهن الخطّي” لأنه أعقد من فكرة النقطية (الوجود أو عدمه) فثمة تفاضل في الوجود، ثمة شيء أكثر من شيء آخر، أو أقل منه، أعلى أو أدنى، أكبر أو أصغر، وهو النمط الملاحظ بالعين المجردة، دون كثير معالجة ذهنية للمفاهيم، وهو متوفر بكثرة في واقع البسطاء.

صاحب الذهن الخطي ينظر في أمر العقارات مثلا، فيرى أن الشقة تؤجر بمبلغ محدد، فيقرر أنه إذا أجّر شقتين سيحصّل مبلغا مضاعفا، وإذا أجّر مئة شقة سيحصل مئة ضعف، لكنه لا ينتبه إلى أن القرية التي يسكنها لا تتحمّل هذا العدد من الشقق، ولذلك فإنه من المتوقع أن يتغير إيجار الشقة تبعا لفكرة العرض والطلب.

آباؤنا فكّروا بذهن خطّي عندما نصحونا بالتخصصات الطبية والهندسية، فهم لم يفهموا نمط العرض والطلب، وأن دخل الأطباء زمن ندرتهم غير دخلهم إذا فاض بهم السوق، وكذلك فكّروا عندما أرادوا علامات أعلى في المدرسة، وتحصيلا أعلى في الجامعة، ومرتبة أعلى في الوظيفة… إلخ.

الذهن الخطي يعالج موضوع تغير سعر صرف العملة، فيهرب إلى حل اعتماد العملة الذهبية، وهو ليس حلّا من الأصل، لأن العملة الذهبية تعمل مثل سائر العملات داخل حدود الاقتصاد الذي يتعامل بها، والتغييرات التي يمكن أن يتوقعها المنادون بها متعلقة بالاقتصاد العالمي لا المحليّ، أي خارج إطار الدولة.

يميل الذهن الخطّي إلى تبسيط الواقع ليصبح مماثلا للنمط المستخدم الأعلى عنده، فيرى الواقع كله بصورة خطية، ومن هذا أنه يعتمد على درجة في المجال ليحدد درجة أخرى في المدى، كما كنا نحسبها باستخدام المستوى الديكارتي، فإذا كانت الدرجة الفلانية أدّت إلى التخصص في الهندسة، فلا يقبل أن تؤدي درجة أعلى منها إلى تخصص إدارة الأعمال، فالذهن الخطي يتضمن النمط النقطي داخله، كما يتضمن الخطّ النقاط: قبل هذا المكان على الخط أنت مؤمن، وبعده أنت كافر… وهكذا.

في الحقيقة الواقع اليوم أعقد من النمط الخطي بكثير، والذهن الخطّي لا يكاد يفي بأي من مهامه الموكلة إليه، وهذا بسبب أن الواقع يشمل أنواع كثيرة من الأنماط والاقترانات، فالمادة التي تكون خطيرة بنسبة محددة في جسم كائن كالضفدع قد يزول خطرها إن زادت، لأن الجسم سينتبه لها. وهذه قصة شهيرة في العلم.

الذهن الخطيّ سبب لكثير من المتاعب التي نعيشها، كذلك تستطيع أن تفرمل أيا من الاستنتاجات التي يأتيك بها صاحب ذهن خطي بإجابته: ليس شرطا! ثم انظر حولك في الواقع وستجد مئات الأمثلة في متناول عينك، لتغمره بها.