هل كان الرسول يقرأ ويكتب؟

تستخدم كلمة “أميّ” حديثا بمعنى فقدان القدرة على القراءة والكتابة، وقد تعلمنا صغارا في المدارس أن الرسول لم يكن يتقن القراءة والكتابة، وأن عدم قدرته على القراءة والكتابة هو ما يشير له القرآن عندما يسميه أميًّا، وطالما أكد معلمونا على أن الرسول لم يكن يتقن القراءة والكتابة، ولم يكن يتقن الشعر، وربما كان وراء ذلك أنهم يخافون أن نظن أنه تقوّل القرآن وكذبه على الله، فما مدى صحة هذه الدعوى؟ وما مدى قواميتها في ما خلقت من أجله؟

وعلى مذبح الحقيقة، نقدم مجموعة من الأفكار في سبيل جواب هذه الأسئلة:

  1. ورد وصف الرسول بالنبي الأميِّ في القرآن مرتين، وورد وصف أمته بالأميين ثلاث مرات، ولا يمكن الفصل بين التسميتين، بأن نقول: إن الأمية تعني هنا شيئين مختلفين. فهي صفة واحدة اتصف بها الرسول واتصف بها قومه.
  2. يقيم القرآن فصلا بين الكتابيين والأميين، على أساس أنهما أناس مختلفون، فالكتابيون أو أهل الكتاب هم من أوتوا الكتاب، والأميون هم من لم يؤتوا كتابا من قبل القرآن.
  3. الكتاب في القرآن ليس الكتاب في قرطاس، أي ليس ما يخط ويكتب، فهو يقول ضمنا: إن الله لم ينزل كتابا في قرطاس. وهذا في معرض الرد على طلب المنكرين، والكتاب يعني العهد أو الكلام الإلهي، سواء دوِّن في قرطاس أم لم يدوَّن.
  4. لكلمة “أميّ” معان عدة، أحدثها المعنى المختص بانعدام القدرة على القراءة والكتابة، وهي مشتقة من فكرة الثقافة الشفاهية، المعتمدة على الأم، وهذا الاشتقاق حديث نسبيا، أما المعاني الأقدم، فهي من “أم” بمعنى أصل، وهي أيضا النسبة إلى “أم القرى” وهي مكة، كأن نقول “ديريّ” أي منسوب لـ”ـدير الزور”.
  5. هل نستطيع وصف أمة كاملة بكونها “أمية” أو بقولنا: “الأميون”، وفيهم من يقرأ ويكتب؟ وما هي النسبة المطلوبة للكتبة في مجتمع حتى نقول: إنه مجتمع أميّ، أو مجتمع غير أميّ.
  6. ثابت لدينا أن بين العرب من حول الرسول من يقرأ ويكتب، سواء من الكفار أو المؤمنين، وهم من قومه “الأميين” الذي بعث فيهم.
  7. تقدم النصوص الإسلامية الرسول على أنه تاجر مرتحل، ورجل مؤتمن على مال غيره، لاسيما زوجته الأولى خديجة، وعلى أنه رجل متأمل باحث عن المعرفة، كان يعتزل الناس للتساؤل والتأمل فيجلس في غار حراء، وعلى أنه عالم بأيام العرب وشعرهم ومهتم بهما، وعلى أنه يقدر القراءة والكتابة فيحض الصحابة عليها، ويشترط تعليمهما لعدد من أهل المدينة فداء للأسرى، وعلى أنه يصحح كتبة الوحي، فيقول: “من كتب عني شيئا فليمحه”، فهو يميز بين قوله وقول القرآن، ويشترط أن تكون الصحائف محتوية على القرآن فقط.
  8. يقول القرآن: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)، فهل المقصود هنا رجل لا يقرأ ولا يكتب؟ وكيف يفترض به أن يعلمهم الكتاب والحكمة، ويتلو عليهم، وهو لا يقرأ ولا يكتب؟
  9. حول معرفة الرسول بالشعر نجد أن الرسول يقدر قيمة الشعر، ويطلب من شاعره أن يهجوَ من عاداه، ويسخط على من يهجوه، ويتتبع شعر أمية بن الصلت، ويرتجز في المعركة فيقول: أنا النبي لا كذب… أنا ابن عبد المطلب. وينقد شعر كعب بن زهير بن أبي سلمى، ويعدل عليه تعديلا بليغا، إذ قال كعب: “مهند من سيوف الهند مسلول”، فصححه الرسول حسب الرواية: “مهند من سيوف الله مسلول”، والتعديل في مكانه إذ أنه يضيف معنى شريفا، ويتجنب تكرارا ممجوجا، إذ إن كلمة “مهند” تعني النسبة إلى الهند، وهي كناية عن جودة السيف وسمو قيمته.
  10. ما يتخوف منه العرب حول علاقة الرسول بالشعر وبالكتابة، أن يتهم المنكرون الرسول في صدقه في نسبة القرآن لله، ولكنهم مع ذلك يقرون أن الرسول قال: “أنا أفصح العرب”، و”أوتيت جوامع الكلم”، “رضعت في بني سعد”، فمن أراد اتهامه باختلاق القرآن فله من شواهد قدرة الرسول البلاغية ما يغنيه عن استخدام فكرة قدرته على الكتابة والقراءة.
  11. إن دعوى عدم قدرة الرسول على الكتابة والقراءة، تمثل فرصة للمنكرين في الطعن في القرآن، إذ يمكنهم نسج مؤامرة متخيلة بين كتبة الوحي، لاسيما وأنه ثمة خلاف نشب عند توحيد المصحف، وثمة اختلاف بين بعض المصاحف لاسيما مع مصحف ابن مسعود، ويمكن أن تدور هذه المؤامرة دون أن يعلم بها الرسول الذي لا يقرأ ولا يكتب، لاسيما وأن الأمر استقر لبني أمية، القبيلة التي ينتمي لها عثمان موحد المصاحف.
  12. إن عدم كون رسول شاعرا، لا يعني أنه لا يستطيع ترديد الشعر، أو حفظه أو نقده، وتمييز جزله من ركيكه، أو حتى قوله أحيانا، فثمة شعر يروى عن أبي بكر وعلي، وهما ليسا بشاعرين، فاكتساب صفة شاعر تحتاج أكثر من القدرة على قول بضع أبيات في مناسبة ما.
  13. إن كون الرسول قادرا على القراءة والكتابة ومع ذلك جاء بالقرآن لا يمثل خرقا، فالذين لا يتقنون القراءة والكتابة يستطيعون إملاء غيرهم ليخط لهم ما يقولون، وهكذا هم قادرون على الإنشاء، فليس ثمة فضيلة في ادعاء أنه لم يكن يقرأ ويكتب.
  14. المسألة برمتها ليست من صلب العقيدة، فالمسلمون المعتزلة يرون القرآن مخلوقا في وعي محمد، ومقولا بلفظه، ولا يجعلهم هذا منكرين لرسالته، بل إنهم أول من أسس للعقيدة الإسلامية كما نعرفها اليوم، بما اجترحوا من أسئلة، وإن كان أكثر المسلمين اليوم مختلفا معهم فيما أجابوا به عن هذه الأسئلة.
  15. الحديث حول أول نزول لجبريل على الرسول، ورده على جبريل: “ما أقرأ” يمكن فهم “ما” فيه على أنها للاستفهام لا للنفي، وهو الأقرب للسليقة العربية وللسياق، أما روايته “ما أنا بقارئ” فهي غير فصيحة، إذ هي تعني الرفض ولا تعني نفي القدرة، كما نقول: ما أنا بتارك صاحبي! فإن كانت تعني نفي القدرة، فإن قول القرآن: (اقرأ باسم ربك الذي خلق) بعدها مباشرة، يجب أن يحمل على طريقة (كن فيكون)، فيعلمه القراءة من فوره، وهذا من باب متابعة فرض مخالف للبلاغة وشرط العربية، لكنني أسوقه للتوضيح.

هذه أفكار تقدم كتساؤلات، تطلب المعرفة لا الإقناع برأي محدد، لكن المعرفة في ذاتها تترك الناس في سعة الخيارات المتخذة بدليل، بدل ضيق الجهل الذي يتعب حامله، فلعلنا نخرج من الظلمات إلى النور.