بول الضبع| من المضافة إلى السياسة

كنت في سنّ مبكّرة عندما سمعت _لأول مرّة_ الرواية الشعبية التي كانت شائعة في جنوب سوريّا، التي تتحدث عن أن الضبع يبول على ذيله، ويرشّ ضحيّته ببوله، فيفقد الضحية صوابه، ويظنّ الضبعَ عزيزا متوفّى، كأبيه مثلا، فيتبع الضبع إلى مغارته، ولا يوقظه إلّا ارتطام رأسه بغصن زيتونة، أو حافّة كهف، تجعله ينزف.

وتلك الرواية على بساطتها لعبت دورا في تشكيل وعيي، ليس بما هي خرافة شعبية مضحكة، وإنّما بكميّة الشهود الذين يقولون: إنها حدثت مع فلان الفلاني، أو فلانة. ودائما ما كان الراوي يعلّقها بسلسلة تنوف على حلقتين، فهو سمعها من فلان الذي رأى فلانا أو سمعها من فلان.

هذه الخرافة الشعبية تنحدر من قبيلة من الخرافات التي تأتي على شاكلتها، كلفظ قبر ما لميّت لأنه لم يكن يصلّي، أو كحفر قبر ميت بحثا عن وثيقة رسمية، واكتشاف ثعبان ضخم يلتف على جثته، أو أن رأسه تحوّل لرأس دابّة، أو أن شهيدا ما زال دمه طريا ساخنا بعد موته بسنين، وما إلى ذلك من البحث عن الذهب وقصص الكنوز المرصودة، والجنّ وغيرها من “السواليف” التي ليس لها أول ولا آخر. فإذا عزّ عليك أن تجد من يصدّق ببول الضبع، فستجد حتما رواية أخرى ينطبق عليها ما ينطبق على بول الضبع.

هذه القصص لها ما يميّزها ويسبب شيوعها، وإذا بحثنا عن المشتركات المتقاطعة بينها، فإننا سنجدها تتصف بالخصائص الآتية:

  • سهلة التداول، يمكن سردها في مضافة أو مجلس أهليّ إثر عشاء أو أداء واجب تعزية.
  • مثيرة وتنقل حمولة عاطفية، من خوف أو تعاطف أو أمل…إلخ.
  • محفّزة للخيال، حين تسمعها لا تملك ألّا تتخيل أحداثها.
  • حدثت مع أشخاص يشبهونك، فأبطالها ليسوا أجانب، ويمكنك أن تكون مثلهم، وهذا أحد أسباب إثارتها، لأنك لا تتعاطف مع ما لا يمكنك التواصل معه.
  • لها سند من الرواة، فأنت إن كذّبت ناقلها إليك، تكذّب معه من ينقل عنهم.
  • تحتوي على أسماء أو على شخوص يبدو أنه من الممكن التحقق منهم. أي أنها “مؤكدة” على نوح ما.
  • توحي بقيمة عملية متخيّلة.
  • تأتي على هامش الحديث، ولا تكون موضوعا في ذاتها، وربّما استدلّ قائلها بها على أمر غير خلافيّ.
  • تشبه القصص، بل وتنطبق على منحنى السرد القصصي.
  • تتنتظم في منطق متسق واحد، فلا يخالف أولها آخرها.

إذا أردنا أن ندرس سبب اتصافها بسهولة التداول مثلا، فقد نحلل الأمر إلى عوامل مثل الطول المحدود، وسوى ذلك من صفاتها القصصية، وكذلك في كل نقطة من النقاط السابقة. أي أنّ الأمر أعقد من التبسيط المخلّ الذي تناولناها فيه.

هذه الخرافات الشعبية، قد تكون بقيت في إطار المضافات، بسبب محاولات التحديث العربية، التي تمكّنت من حصارها، وجعلها نكاتٍ يتندّر فيها الناس، لكنّ النمط الذي تسير عليه لم يختفِ على الإطلاق. النمط الذي تنتمي إليه هذه القصص ما زال حاضرا في حواراتنا، فكم مرّة صدفت من يخبرك قصة على هامش نقاش ما، ليثبت لك أمرًا، انتبه إلى القصة التي يسردها، وستجدها تنتمي لهذه العائلة من “الخراريف”.

القصص التي شاعت قبل سنوات عن ملائكة يقاتلون الجيش العربي السوريّ مثال جيد على هذا، وكذلك القصص التي يفسّر بها عموم الناس سلوك حكومتهم، فبدل أن يعمد التفسير إلى فهم الأطراف والظروف والأحداث المتحقق منها، يقفز إلى استنتاجات لا دليل عليها سوى قصص من شاكلة بول الضبع.

ربّما كان انطباق بعض هذه الصفات، وعدم انطباق بعضها الآخر، على سرديّات “القادمون” و”المتنوّرون” و”حكومة العالم الخفية” والماسونية، هو سبب أنها تحظى بانتشار محدود بين العامّة، فربما لو انطبقت عليها  الصفات جميعا، لرأيناها في كل مكان حولنا.

المصيبة الحقيقية تتجلّى عندما تصبح هذه القصص عمل المحللين والصحفيين، فهم يملكون مصداقية تؤهّلهم لسرد هكذا خرافات على الملأ، ويكون تكذيبها مهمّة نقّاد ومراقبين لا يحظون بالشعبية ذاتها التي يحظى بها فلان الصحفي، وهكذا فهي تنتشر كالنار في عشب العامة اليابس، ولا تلعب رياح النقد إلاّ دور ناشر لها، فهي لا تستطيع إخمادها.

لكي لا نتحدّث في الفراغ، فلنذكر حادثة تقليع أظافر الأولاد في درعا، وهي السردية التي تبنّاها الصحفيون المأجورون والسذّج، ونشروها في كل مكان. أتذكرون تلك القصة؟ لقد سمعتها من مقيمين في درعا، وكانوا يروونها على أنها حدثت بالفعل، لكنني عندما استطردت بالأسئلة اتضح لي من كلامهم أنهم لم يروا شيئا، ولم يسمعوا بالحادثة قبل تداولها إعلاميّا.

في عصر الاتصال الفائق يصبح انتشار مثل هذه الخرافات أسهل من ذي قبل، وتصبح أبعد عن يد الناقد، فهي متداولة بطريقة هستيرية، ويجد فيها الناس دليلا على صحة انتمائهم السياسيّ، أو الطائفيّ، والدليل دائما من نمط جملة عادل إمام المشهورة: “والدليل قالوا له”، وكما قال الأديب الإيرلندي جونثان سويفت: تطير الكذبة نحو الآفاق، تلاحقها الحقيقة وهي تعرج.

فما هي الطريقة الأمثل للتعامل مع ما نسمع، أو نقرأ أو نشاهد، على وسائل الإعلام المختلفة؟

يلخّص مايكل شيرمر، وهو محرر مجلة علمية مشهورة، الأمر في الشريط الآتي:

 

مع ملاحظة أنّ الطريقة التي يروّجها شيرمر يجب أن تطبّق على الأمثلة التي يسوقها.

يضاف إلى ما قاله شيرمر نقطتان مهمتان:

1- يجب علينا فحص افتراضاتنا الأولية دائما، فربما كان فيها شيء خاطئ.

2- إذا تساوت فكرتان في الوجاهة، يجب أن نفكّر في مؤدّى كل منهما، ويكون المؤدى بابا للتفاضل حينها.

أمّا أن نبقى على حالتنا المعهودة، حتى في ظل انتشار أدوات العلم، وفي عصر التواصل الفائق، فإن هذا يعني أن نسير بأمتنا إلى الهلاك، فقط لنتحدث ونجد ما نقوله.