تحضرني مقولة سككتها في مقالة سابقة: “الشعر أشرف صنعة وأحقر مهنة”، وأنا أستمع لما تسميه قناة الجزيرة “كلمة بليغة للشاعر تميم البرغوثي” في افتتاح مكتبة قطر الوطنية. نعم، مثلي من يحفظ للجواهري حقّه في توجّهاته السياسية، ومن لا يعيب على المتنبي تكسّبه من المدح، إلّا أنني آخذ على أي إنسان ألا يكون متّسقا مع نفسه، فكيف بمن يسمّيه الناس “شاعرا”!
انقسمت كلمة تميم البرغوثيّ إلى أقسام عدة، كلّ منها استعراض لقدرته على أن يكون لزجا، يختبئ خلف البلاغة اللفظية ليناور، في سبيل أن يرضي سيّده وجمهوره معًا.
الشكر والترحيب:
أن تشكر الساسة القطريين على استضافتك في حدث ثقافي هو أمر مشروع، لكن أن تشكرهم على “كرم النفوس”! هل تجهل معنى الكرم، فتخلط به إجزال الأعطيات؟ النفس الكريمة تأبى لصاحبها أن يكون ملحقا بأمريكا والصهاينة، وتأبى أن تكون ملحقة بالسعودية من قبل ذلك. والأهم أنها تأبى لبلاغة صاحبها أن تعمل كمسمار في حذاء شخص، هو في الأصل تابع، لا يعرف معنى كرامة النفس!
ثم يأتي إلى الجزء الذي ينادي فيه سادته بـ”أصحاب السمو” و”أصحاب المعالي”، ويأتي بالمنادى الأخير على نحو عجيب؛ فيقول” “الضيوفُ الكرام”، وهنا نسأل: ألم يكن بمقدورك أن توظّف تلاعبك بالألفاظ لتعفي نفسك من وصف سادتك بالسموّ والعلوّ؟
البداية:
يبني تميم سردية يريدها لغاية ستتضح في نهاية البداية، جاعلا العرب “أمما”، بالاتكاء على المفهوم القديم لكلمة أمّة، وجاعلا القبائل تبدأ في القصائد، وجاعلا الفرد مُنساقا للكلام الذي يرد في الشعر، ليصبح فيما بعد عضوا في القبيلة، إذا التزم بالصورة المثالية للقبيلة والقيم التي يبتدعها الشاعر، بعد أن يصدّقها.
هنا يحاول تميم أن يطمئن أسياده بأنهم سيسيطرون على العرب، لأنهم ينتجون لهم إعلاما يتدخّل في صياغة الهوية العربية، ثم يعرف الأمة تعريفا عجيبا بأنهم “مجموعة من الناس يتبعون إماما”! وإذا أردنا أن نقول إنه: “حاول نقل التعريف من اللغة القديمة إلى اللغة الحديثة”، يمنعنا من ذلك أن التعريف في اللغة الحديثة يكون: قوم لهم توجّه واحد.
ويكمل الربط العجيب، الذي لا نرى منه غاية غير استعراض لزوجة فكره، وأنه قادر على إقناع نفسه بأن أي مخزاة يأمره بها سيده هي مكرمة، فيقول: إن “الإمام في اللغة هو الكتاب”، مستشهدا بآية، يغطّي بها سوءة لغته. والإمام، على الحقيقة، كل ما يؤتمّ به، وفي الآية هو وصف للكتاب وليس اسمًا آخر له.
ويأتي فيما بعد إلى خلاصة هذه اللفة العجيبة، وهي أنّ كل قوم يتبعون صورة مثالا هم أمّة، وكان لذلك طريق أقصر، لولا أنه أراد أن يمرّ على قصة الكتاب، لأنه في افتتاح مكتبة.
أمّا الاشتراك المعنوي بين الأمّ والقصد، وهو حقيقيّ، الذي استخدمه ليربط القصيدة بالأمّة، فهو جاء به تأكيدا على فريته التي تقول: إننا أمم خلقها كلامها. وهذا ما لا صلة بينه وبين هذا الاشتراك المعنوي.
المتن:
يتابع تميم في طريقه إلى جيب سادته، قائلا: “إن جمال القول يجعله صادقا… وإن العرب كانت إذا أعجبها جمال بيت من الشعر سيّرته مثلا!” وهذا والله لقول عجيب؛ فالحق أن الناس، عربا كانوا أو عجما، يعجبهم القول إذا كان كفؤا في حمل معنى يتبنّونه أصلا، والكفاءة هنا من البلاغة، أي إبلاغ المعنى مكانَه في النفس، وإذا اتفق هذا في بيت من الشعر، سار مثلا دون إرادة قصدية، كالتي يفترضها تميم.
تميم هنا يعتصر نفسه “بلاغة” لكي يصبح صادقا، وكأنه يصدّق الهراء الذي قاله للتوّ، وهو في الحقيقة يصدّقه لأنه يوافق غرضا في نفسه، وهو يريد لكذبه أن يكون صادقا.
كثرة القفزات في كلام تميم توهم السامع أنه كلام متصل، آخذ بعضه بأطراف بعض، لكن الحقيقة غير ذلك؛ فلم أجد علاقة بين الكتاب وقدرته على تغيير العالم، والمثال الذي صاغه عن قدرة الناس على التواصل اليوم، وقدرة العدد على تنفيذ الفكرة، فهذا الواقع أبعد الكتاب عن ساحة الفعل، لاسيّما في الوسط العربيّ الذي يستشهد تميم بـ”ثوراته الملوّنة”، فيعدّ في أشكال تداول الفكرة “الخبر على قناة الجزيرة” مبتسما ابتسامة من يقول بالعامية: “كيف وأنا أجيبها!” في حين لا يتجرأ على عدّ الكتاب في أشكال تداول فكرة “الربيع العربيّ” لأنه يعلم أنه إنما بُني على السلوك القطيعي وعلى الجهل.
يرى تميم البرغوثي الدولة “قلة مسلّحة مأمورة”، ولكن هذا مقتصر عنده على أي بلد عربيّ سوى قطر بالطبع! ثم يعدّد القيم المزعومة لربيعه العربي، فيعدّ من ضمنها: أن الإنسان لا يحاسب على ما لم يختر! ثورته التي انطلقت في سوريا بقول: بالذبح جئناكم شيعة ونصيرية! ثمّ يعرّض بعنصرية الاحتلال الصهيوني، قاصرا اعتراضه عليها، وهذا لا يقبل أبدا ممن يحمل درجة في حقل أكاديمي متعلّق بالسياسة، فضلا عن أنه لا يقبل من عربيّ، فكيف والمتحدّث فلسطينيّ؟
ينسى تميم وهو يتحدّث عن الكيان الصهيونيّ دون أن يسمّيه، أنه ثمة كيان آخر يمنح الجنسية على أساس الديانة، وهو الكيان الذي جاء به ربيعه وربيع أسياده، أقصد داعش.
ثم يعترف وهو يغوص في التشبيهات أن ثورته المزعومة كانت ثورة “اقتباسات” وينسى أن يذكر أن معظمها كان مكذوبا، وجميعها مجتزأ من سياقه، بما في ذلك الآيات الكريمة التي عضّيت فأصبحت تعني القتل والاحتراب.
أمّا أغرب ما أتى به، وهو في الحقيقة ما دفعني لإفراد مقال لتفكيك قوله هو الأتي: “إلا أن انتصارها لم يدم، فقد دهمتنا الأحداث ونحن بلا تنظيم ولا تنظير” آلآن يا تميم! وبعد أن هدمتم بلادا وشردتم عبادا تقولها! تقولها ولا تعتذر! تقولها وكأنها كشف من السماء! ألم يبحّ صوتنا ونحن ننادي فيكم ألا تهدموا الدول التي بقي لنا منها قشرة تمنع الاحتراب والتطرف، قبل أن يكون في يد الناس أداة عامة، ونظرية للنهوض!
بعد ذلك يعود أدراجه ليتحدث عن الكتاب وكيف يوسّع المكان، في مجاز لا يراد منه إلا أن ينتصر لقطر في وجه السعودية، وأكثر ما يلفت انتباهي هنا قوله عن حكام البلدان الصغيرة التي تحاصرها ممالك كالأفيال: “وكان لحكّامها اضطراراتهم” مبررا لقطر علاقاتها بالصهاينة، وكونها قاعدة عسكرية لأمريكا. ياه أإلى هنا يصل الابتذال!
الميزة التي يدّعيها تميم البرغوثي لقطر أن قادتها لا يخافون الكلمة، ولا يلزمون الكتّاب باضطراراتهم السياسية! هههههه ولماذا إذًا تقف أنت هذا الموقف يا شابّ؟ وألم تعلم عن شعراء دخلوا السجن لأنهم عرّضوا بذكر شخص يقع اسمه في أدنى قائمة الأمراء! ودخلوه دون تهمة ولا محاكمة! أم أنك لا تشاهد إلا الجزيرة!
ثم يعرّض بذكر الإدارة السعودية الجديدة وهو يتحدّث عمّن يخاف الكتب ويحبّ المهرجانات، وينسى أن السعودية نشرت سمومها على صورة كتب أيضا، واشترت كتّابا ربّما كان بعضهم أمهر منه باستمناء اللغة.
وفجأة يتبنّى تميم البرغوثي انتصارات حزب الله على الصهاينة، ناسبا إيّاها للشعوب، لا لأنه يعرف أنّ محور المقاومة يحصد تأييدا شعبيا كبيرا، بل لأنه يريد أن يهمل ذكره وهو يتحدّث عن النصر.
أخيرا لابدّ من الالتفات إلى أبي تميم حاكم قطر، وهو ينظر لزوجه كلّما أعجبه قول تميم البرغوثي، وكأنه يقول: أليس خيارا ظريفا!
إنه بات ضروريا أن نقول:
لا يستيقظ العرب إلا إذا انتصروا على البلاغة الشكلية، فلم يعودوا يعجبون بكل قول باذخ المبنى هزيل المعنى، كخطاب تميم أمام تميم!