دُرّسنا في مدارسنا ما يتداوله أهل ديانة الإسلام اليوم، من كون الشهور القمرية مختلفة عن الشهور الشمسية، وأنها تحسب بدورات القمر، فتكون السنة القمرية أقصر من الشمسية بأحد عشر يوما، وأن رمضان ينزاح كل سنة، فيأتي أبكر من السنة التي قبلها، وعشنا ونحن نظنّ أنّ هذا هو الشهر المقدّس، والذي له “حرمته”. لكن هذا ليس الذي نجده في كتب التاريخ!
وطالما سمعنا من أئمة الجوامع والمدرسين عن دقة القرآن في حساب زمن نوم أهل الكهف، بأنها 300 سنة شمسية، و309 سنة قمرية، وأن القرآن ذكرها حين قال: (ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا)، وكيف أن هذا من إعجاز القرآن! مع أن هذا الكلام غير دقيق، لأن المدة لا تتساوى تماما بل يزيد أربعة أشهر (300 شمسي= 309 وأربعة أشهر قمري)، والله يجب أن يكون أدق من أن يحتوي كلامه على هامش الخطأ الكبير هذا. ناهيك عن أن القرآن يقول أن هذا ما يقوله الكهنة، وهو يقول: (قل الله أعلم بما لبثوا) مباشرة بعد هذه الآية، أي أنه لا يقرّ قولهم.
وناهيك عن المغالطات الكثيرة في قصة أهل الكهف، فالقرآن لا يقول ما تقوله القصة التي يستقيها المسلمون منه، فإن موضوعنا هنا هو الشهور القمرية عند العرب، هل هي قمرية فعلا؟ أو لنقل: هل هي قمرية تماما؟
تاريخ التقويم
الشائع أن التقويمين الشمسي والقمريّ بدأ كلاهما في حضارة وادي النيل القديمة، وأشيعا على يد يوليوس قيصر، وأن “المصريّين” القدماء هم أول من قسموا السنة إلى 12 شهرا، لأنهم كانوا يؤرخون للسنة الزراعية بوساطة مواضع الشمس والأبراج، ويؤرخون للأشهر بوساطة القمر، فكان أن القمر يتمّ 12 دورة من دورات حياته، تقريبا، كل سنة شمسية.
دورة الزمان هذه التي تقسم إلى ثلاثة فصول، كل فصل منهم 120 يوما، أو أربعة فصول، كل فصل منهم 90 يوما، لوحظت ورسم على أساسها مندالات متعددة في العالم، أقدمها فيما أعلم في طاسيلي ناجر في الجزائر. قد كتبت مقالة مفصلة عن المندالا في السابق، تستطيع قراءتها بالنقر على عنوانها هنا: (المندالا).
أما العرب في الجاهلية فقد كان تقويمهم مأخوذا من الحواضر حولهم (اليمن، الحبشة، الشام، العراق، مصر)، وساهمت ثقافة البادية والتجارة والغزو، في تحويره قليلا. وجاء الفهم المغلوط للقرآن لكي يكمل على هذا التحوير، فيجعله تحريفا، أخرج الشهور القمرية عن عملها الأصلي، وبات للقمر سنة مستقلة، مرجعها عام الهجرة.
كان العرب يقتدون بالمصريين القدماء في شهر التقويم، وهو اسمه عند المصريين، (التقويم هنا بمعنى التصحيح)، ويسمونه النسيء، وهو إما أن يكون شهرا يضاف كل ثلاث سنوات، أو أياما تضاف على الأشهر في كل سنة، والراجح أنه شهر يضاف كل ثلاث سنوات.
نتحدث هنا عن عرب الجاهلية أصحاب الديانات الأوزيريسية، نسبة إلى أوزيريس زوج إيزيس، التي نجد قصة شبيهة لقصتها في بلاد الشام والعراق، وفي تراث المنطقة المتوسطية كلها. العرب كان لهم ملل أوزيريسية عدّة، أهمها: الحمس، والطلس، والحلة. وتفاوت هذه الملل هو سبب من أسباب تفاوت الأحكام في الإسلام، بين قبيلة وأخرى، وبين شِعب وآخر. لكن هذا حديث طويل ليس هنا محله.
خلاصة الأمر أن الأشهر “القمرية” عند العرب، كان لها تصحيح شمسيّ، هو شهر النسيء، واسمه جاء كما هو واضح من النسيان. يقول أصحاب المعاجم: النون والسين أصلان، يدل أحدهما على النسيان والآخر على الترك. ومنهما (نسي) بمعنى غفل، ونسئت المرأة (أي تأخر حيضها) بمعنى أنها حملت، وهذا فرع من فروع المعنى، وليس أصلا، تماما كما يسمى المتاع الذي يخلفه العرب الرحّل النسيُ، وهذا فرع آخر. لكن المفسرين حملوا النسيء على المعنى الفرعيّ، فقالوا هو بمعنى التأخير، وهو في الحقيقة بمعنى النسيان.
نقاط من السيرة
أسماء الأشهر القمرية تخبرنا بالكثير، وكذلك وصف الأحداث التي حدثت فيها، لا سيما في السيرة النبوية التي أرّخ لها العرب جيدا، ومن ذلك:
- ميلاد الرسول في الثاني عشر من ربيع الأول عام الفيل، الذي قيل فيه أن الأرض اخضرت، وضروع الدواب أدرّت (ازداد اللبن في أثداء الأنعام)، وما إلى ذلك من بشارات الخير، بعد تأخر فصل الربيع.
- غزوة بدر في السابع عشر من رمضان، إذ أمطرت السماء بعد جفاف طويل.
- سورة التوبة التي وردت فيها الآية التي “تحرّم النسيء”، حسب فهم المفسرين، نزلت في العام التاسع للهجرة، إبّان غزوة تبوك.
- غزوة تبوك وقعت في شهر رجب. (وهو من الأشهر الحرم)
- خطبة حجة الوداع (سنة 10 للهجرة) التي يروى أن الرسول قال فيها: “الزمان قد استدار، فهو اليوم كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض”. فهي سنة لم تحتج للنسيء، والرسول توفي بعدها بأربعة أشهر، في السنة 11، وهذا يعني أن الرسول لم يلغِ النسيء عمليّا، وإنما ألغاه الناس من بعده، لأن النسيء لن يأتي إلا بعد ثلاثة أعوام!
أسماء الأشهر ومعانيها
محرّم: الذي يحرّم العرب فيه الغزو، حتى يعود الحجيج إلى ديارهم، وهو الشهر الأول. (لاحظ أن فعل التحريم وقع عليه لا منه، وإلا لسمّي حراما)
صفر: الذي تصفرّ فيه الشمس بعد غياب، وتسقى فيه الدواب فتصفر (صوتها إذا سقيت)، ويسمع فيه صفير الطير.
ربيع الأول: الذي يربع فيه الناس في أماكنهم (يثبتون فيها)، لأن العشب وافر، ولا يحتاج البدو فيه إلى الترحال.
ربيع الثاني: استمرار فصل الربيع.
جماد الأولى: الذي تجمد فيه السماء فلا تمطر على الإطلاق. (نهاية الربيع)
جماد الثانية: استمرار لهذا الوضع. (الصيف).
رجب: ورجب تعني فزع، وهو الشهر الذي يفزع فيه العرب بسبب طول مدة الحر، وقلة المواسم، وندرة العشب، وهو شهر معظم عند العرب، يحرّم فيه الغزو، لأن فقر الحال يكون مشتركا. (شدّة الصيف).
شعبان: يتشعب فيه العرب بحثا عن الكلأ (العشب الذي تأكله الدواب)، ويغزون بعد طول انقطاع عن الغزو. (آخر الصيف)
رمضان: ترمض فيه الأرض، أي تمطر بعد شدّة الحر، وهو شهر كانت العرب تقلب يومها فيه، فتنام النهار، وتعتاش ليلا. (الخريف).
شوّال: تشول فيه النوق (جمع ناقة)، أي ينقطع لبنها، وقيل يشيل الحجيج أحمالهم على دوابهم، وهذا قول ضعيف. (امتداد لفصل الخريف).
ذو القعدة: يقعد فيه العرب عن الغزو تحضيرا للحج، وقعودهم هنا له علاقة بالمطر الشديد، وتشكل السيول. (بداية الشتاء).
ذو الحجة: يحج فيه العرب إلى كعباتهم، ونحن نتحدث هنا عن كعبات كثيرة لم يبق منها إلا كعبة مكة، وآخرها هدم من وقت غير بعيد.
نقاط نستنتجها
- علاقة أسماء الشهور الجزيرية (نسبة إلى جزيرة العرب)، بفصول السنة الشمسية علاقة واضحة.
- كانت الأشهر تنحرف عن مواضعها الفصلية كل سنة 11 يوما، ثم تعود إلى موضعها بسبب شهر النسيء.
- ليس في كلام الرسول تحريم للنسيء، ولكنه يقرّ أن الشهور عادت لمواضعها في العام العاشر للهجرة. (الأخذ بهذا الحديث أصلا مشكل، فكيف يروى عن طريق واحدة وهو قيل في مشهد عظيم كحجة الوداع؟ هذا من عيوب المتن المعروفة عند المحدّثين.)
- ولد الرسول في سنة تلي سنة النسيء، لأن الربيع تأخر 12 يوما.
- رمضان الذي كان يعظمه الرسول ونزل فيه القرآن كان في وقت الخريف أو حوله، لأن العرب كانت تنسأ الشهور في ذلك الحين.
- بقي شهر رمضان طول مدة حياة الرسول يأتي حول الخريف. (شهر أيلول).
- منع النسيء فيما بعد ذلك، بسبب تفسير المفسرين لآية سورة التوبة (… النسيء زيادة في الكفر…).
- بدأت الأشهر القمرية تتحرك وتوافق مواسمها كل 29 سنة تقريبا.
- الأشهر الحرم لها أسبابها الحياتية المتعلقة بظروف العرب، من شدة الصيف (رجب- آب) أو طول الشتاء (ذو القعدة وذو الحجة ومحرّم).
- شهر النسيء كان يضاف في بين السنة والسنة الأخرى، كل ثلاث سنوات، فظن الفقهاء أن العرب كانت تنقل التحريم من شهر محرم إلى شهر صفر.
- النسيء الذي تحدث عنه القرآن مختلف عن النسيء الذي نعرفه تاريخيا، لأن القرآن يقول (يحلونه عاما ويحرمونه عاما).
بعد هذا كله، فعلينا أن نسرد رواية تكاملية ننسجها نحن، لنسدّ الفراغات بين النقاط التي استنتجناها، نستعين فيها بما وصلنا عن العرب القدماء.
تعبير آية النسيء
أولا علينا أن نبحث في معنى آيات سورة التوبة، وإليك آية النسيء في سياقها:
(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ۚ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ ۖ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ ۚ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38))
لننظر: الحديث يبدأ عن الشهور الحرم، وهي عند العرب من قبل الإسلام أربعة أشهر، ثلاثة سرد (متتابعة): ذو القَعدة، ذو الحجة، محرّم) وواحد فرد (رجب)، وهو الشهر الذي غزا فيه الرسول مع أنه من الأشهر الحرم عند العرب، فخالف عرف العرب مع أنه كان يقرّه من قبل.
يتحدث القرآن بما يبرر به الغزو في شهر رجب، وهو شهر حرام، عن أن العرب أخطؤوا في النسيء وضلّوا فيه، فهم يحلونه عاما، ويحرمونه عاما، أي أنهم يعدّون شهر النسيء مرة شهرا حراما، وفي العام التالي يعدّونه شهرا يحلّ فيه الغزو، وبهذا فإن حسبتهم للأشهر غير دقيقة، ويكمل الحديث في خطبة الوداع هذا المعنى بقوله (الزمان قد استدار)، أي أن القرآن لا يعترف أن شهر رجب هنا موافق لشهر رجب المحرم!
ثم يكمل خطابه لأتباع محمد، بأنه إذا قال لكم الرسول قاتلوا فلا تجادلوه، لأن هذا تثاقل عن القتال، ولا تتحججوا بالشهر الحرام، رجب، فالكفار قد خرقوا أعراف العرب، بحصارهم إياكم، وبتضييقهم عليكم.
إذا الآيات لا تتحدث عن تحريم عملية النسء، ولا تقول شيئا عن أن النسيء ممنوع، بل تقول بأن ما عليه العرب في ذلك الحين حيلة خسيسة، يقومون فيها بجعل النسيء شهرا حراما (لا قتال فيه) عاما، وشهرا غير حرام في العام الذي يليه.
تقويم التقويم
وهكذا، بات جليّا أننا بحاجة لعملية تقويم (تصحيح) لتقويمنا (ترتيب الأشهر عندنا)، فالشهر الذي نزل فيه القرآن هو الشهر التاسع من السنة الشمسية، وهو الشهر الذي تصومه العرب من قبل الإسلام، وتتراحم فيه لأنها قد فقدت مدخراتها وتنتظر أن تمطر السماء.
النسيء كعملية تقويم ليست عملية محرمة، وإلا لنهى الرسول عنها، أو تحدث بها القرآن، لاسيما وأنه تطرق للموضوع، فإذا تحدث في أمر فعليه أن يبيّن فيه وأن يفصل.
الناس اليوم تصوم أياما عشوائية في كل سنة، وتتوافق أيامهم مع رمضان الحقيقي، الشهر الشمسي كل 29 عاما تقريبا!
خاتمة
هذه محاولة لتنسيق التضاربات في التاريخ العربي، وفي السيرة النبوية، وليست دعوة للناس لترك صيامها، فالإسلام في الأصل تتمة لعرف العرب من قبله، يروى عن الرسول أنه قال (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، وقد استمرّ الفقهاء بجعل العرف تشريعا ربانيا، لاسيما وأن شرائع الأنبياء اختلفت حسب أقوامهم، ورد في القرآن (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ)، أي أن الشرائع تتعدد ولا مانع من تغيرها حسب العرف، ولهذا فموسى مسلم بشريعة، وعيسى مسلم بشريعة، ومحمد مسلم بشريعة. وقد يكون جائزا أن نبقي على عرف المسلمين اليوم، فنصوم شهرا قمريا ما، يسمّونه رمضان، مع أنه بعيد عن رمضان الحقيقي.
وربما، أقول ربما، كانت صلاة التراويح، التي يرتاح فيها المصلون بعد كل ركعتين، ولهذا سميت تراويح، قضاءً لصلوات النهار التي نام عنها الصائمون. لأن معاشهم يكون ليلا، لا نهارا، وربما لهذا السبب أيضا، ارتبط رمضان بالمصابيح!