تضج منصات الإعلام المجتمعي باعتراضات شعبوية على تعديلات وزارة التربية والتعليم على الكتاب المدرسي، حيث يعلق المعترضون على تغيير كتاب اللغة العربية للصف الثالث برفضهم لما يسمونه “حذف آيات قرآنية”، و”إلغاء لمظاهر إسلامية”، و”تغريبا”، ويصل الأمر لتسميته “صهينة”.
التغييرات المقتصرة على استبعاد جزء من الخطابية الإسلامية من كتب اللغة العربية، ومحاولة اللجوء لخطابية منبرية أخلاقية مع تخفيف حدة الانحياز إلى أسلمة كل شيء، لم تكن لتلحظ لولا الحرب الخفية الدائرة بين الخطاب الديني المغالي وفكرة الدولة الوطنية، حسنٌ، هي ليست خفية تماما، ولكنها لا تظهر بصورتها الكاملة في إطار واحد، وطرفا النزاع متفقان على تجزئة حربهما الكبيرة إلى معارك موسمية وضيقة، لخوف يتملك الجميع.
هذا الخوف من حرب معلنة على الدولة من جهة المغالين، أو حرب معلنة على أسلمة كل شيء من جهة الدولة، لابد وأن سببه أعمق من السطح، الفكرة هنا أن الدولة تزايد إسلاميا على الإسلامويين، والإسلامويون يزايدون إداريا على الدولة، فكل منهما يركز من طرف خفي على أهمية الدور الذي يقوم به “خصمه” _أو لنقل: منافسه_ فأم الجماعات الإرهابية، “جماعة الإخوان المسلمين” رأت انسداد أفق مشروعها في المنطقة، وأنها حولت الوسط الذي تعيش وتتكاثر فيه إلى خرابة، تلتهمها فيه القوى “الداعشية والقاعدية” من أبنائها العاقِّين، وفتحت على نفسها حربا مع الجميع، فهي لا تريده أن يتكرر في الأردن، والدولة الأردنية تسلك أساليب التأثير الناعم في سبيل تجفيف منابع الإخوان الأولى: الكتب المدرسية! دون صدام ظاهر.
التجاور دون تمازج، ودون ذوبان العناصر الوطنية في بعضها، هو علامة قرار تأجيل الصراع وليس تجنبه، فالطالب المسيحي في الأردن يدرس كتابا خاصا بديانته، والطالب المسلم يدرس كتابا آخر، لكنهما يدرسان كتاب اللغة العربية نفسه، وبقاء الكتب المدرسية المعنية بالتربية الدينية، رسالة واضحة بقرار الدولة بعدم تذويب العناصر الوطنية في الوطن، لكن محاولة تحييد كتب اللغة العربية دينيا تظهر أن الدولة تسعى لتخفيف الاحتكاك بين المكونات الوطنية!
نظرة في بعض التغييرات
أولا: تغيير صورة الأم المحجبة إلى أم غير محجبة.
ما يسميه الإسلامويون “حربا على الحجاب” _الحجاب بدوره زي تراثي ترتديه بنات عمومتي “المسيحيات”، وبنات عمومتي “المسلمات”_ ليس إلا الصورة المنطقية الوحيدة للأم، فأي أم تتحجب في منزلها وبين أبنائها وأمام زوجها!
طالب في الصف الثالث الابتدائي يرى أمه غير محجبة في المنزل، ثم يرى صورة امرأة محجبة مع طفل في كتاب المدرسة، لابد أنه سيظنها امرأة أخرى غير الأم! فعن أي حرب على الإسلام يتحدث الحمقى! إنهم لم ينقموا على هذا التغيير، إلا بسبب التدين غير المنطقي الذي يسيطر عليهم، والذي يسرت له السلطة من قبل كأداة من أدواتها!
ثانيا: حذف الآيات من المحفوظات والإملاء المنظور
كل من يتقن العربية يعلم أن الإملاء القرآني “الرسم العثماني” مختلف عن الإملاء العربي المعتمد حديثا، فإعطاء طالب من الصف الثالث الابتدائي آيات قرآنية ليكتبها في الإملاء المنظور، هو إرباك لصورة الكلمات عنده، ناهيك عن الشكل “الحركات الإعرابية” الاحترازي الذي يغطي كل أحرف القرآن، بينما تكتب اللغة العادية بأقل شكل لحروفها.
وهذا التغيير يأتي ليجنب المدارس مواقف مخزية كانت تحدث بسبب جهل المعلمين، من استثناء للطلبة المسيحيين من كتابة مثل هذه الأسطر، لأنهم غير “مسلمين”، أو من إسكات تساؤلات الأطفال عن اختلاف رسم النص القرآني واختلاف شروط النطق بالكلام عند تسميعه غيبا، أو غيرها مما عاصرناه في مدارسنا، وإن أغلق المصابون بالإنكار أعينهم عنه.
ثالثا: حذف الإفراط في أسلمة كل شيء
أن نصف الرحالة ابن بطوطة بكونه حفظ القرآن صغيرا، هو وصف غير دقيق، وغير تاريخي، ثم إن مجرد الاطلاع على محاججات السلفية في تكفير ابن بطوطة، يجعل حسبانه رحالة مسلما من قبل الإسلامويين أمرا في غاية الإضحاك، ولماذا لا نتناول مذهب كل علم من أعلام التاريخ العربي الإسلامي، فنخبر الطلبة أن ابن بطوطة كان صوفيا! وأن فلانا كان دهريا ملحدا! وهكذا حتى نسمم الطالب بتساؤلات الهوية المزيفة وهو لم يبلغ سن التمييز!
قطعة القراءة الحرة، التي تتناول الأرقام في القرآن الكريم، قطعة مصنوعة كاذبة لم تحدث، وهي منسوبة لشخوص مجاهيل، وليس فيها أي عبرة تذكر، ولا هي ترقى لسرد فني يكون الفن في ذاته رسالة فيه، فلماذا يغضب الإسلامويون لحذفها، واستبدال أخرى مكانها؟ هو من قبيل تضخيم الأمر ليس إلا.
هذه التغييرات كلها وغيرها مما لم أحط به علما، تأتي في سياق تحرير اللغة العربية، فالإسلام هو ابن العربية، والقرآن عربي، والتراث الإسلامي عربي، لكن التراث العربي أوسع من الإسلام، واللغة العربية ليست “إسلامية”، وهذه حقيقة إذا استدعت الغضب عندك فاعلم أنك أقرب لداعش منك إلى الله.
للطالب العربي الحق بتعلم اللغة العربية معزولة عن الحمولة الدينية، وحين تقبلون تناول كل نص بالنقد مهما تكن قدسيته، سيرحب العلماني واللاديني والمسيحي و”المسلم الوسطي” وغيرهم بدراسة القرآن كنص عربي، نتناوله تحت الشروط التي نتناول غيره تحتها، ولكنكم أيها الإسلامويين تخشون ذلك!
الاتكاء على “مظلومية الإسلام”، والحرب المزعومة ضده، بات تقليعة قديمة، دعوكم منها، فالناس تسمع وترى، والمسلمون يخشون على أبنائهم من التطرف الذي يحصد أرواح أبنائهم قبيل حصد أرواح أبناء جيرانهم بلحظات، عندما يفجر أحدهم نفسه بهم، والمناهج التي سكَّتها جماعة “الإخوان المسلمين” الإرهابية، على يد إسحق الفرحان كانت سببا رئيسا في شيوع التطرف، فلا تكذبوا بجعلها عيارا للصحة والصواب وموافقة العيارات الإسلامية، فهل ثمة فقيه إسلامي لم يقرأ الأشعار “الكفرية” و”المنحلة أخلاقيا” ولم يطلع على التوراة والإنجيل! دعونا ندرس العربية بعيدا عن هرائكم.