مغانط بشريَّة دوَّارة

هم سمحوا لي بالاقتراب منهم إلى ذلك الحدِّ الذي يمكِّنني من إبصار الشقوق في قلوبهم، من القبض على عيوبهم، لم يحافظوا على مسافة آمنة منِّي، حفظوني ولم يحافظوا عليَّ في حوزتهم، كانوا حريصين وهم يجذبونني إلى فلكهم، أن يكونوا على مقربة من أفلاك أشدَّ جذبا، هكذا حتى تحولت رحلتي في الفضاء من دائرة مكررة تضيق في انتظار ذوباني في أحدهم يوماً، إلى مسافات قطعتها على أقواس أفلاكهم المتعاقبة، باتِّجاه الله في قلبي.

المعلمون الذين تجنبوا النفاق، وكانوا أقرب للأمن الداخلي مع ذواتهم من أن يطلبوه في عينيْ تلميذ لهم، ولم يجبنوا عن جعلي تابعا للحق الذي يعرفون، ولم يستكبروا أن يعترفوا بأنهم لا يعرفون الحقيقة كاملة، وأنهم مثلي يأكلهم الشك حتى بالجزء الذي يعرفونه منها، كانوا على علم ببشريتهم، ولم يحاولوا جعل أنفسهم آلهةً، بل رفضوا بكل عفويَّة محبَّبة، حتى أن أراهم آلهةً ولو للحظة واحدة، وأظهروا رفضهم جليًّا في نقائصهم المعلنة التي كانت أكثر ما قربهم لأداء رسالتهم بكمال.

“قيمة المرء ما يحسنه” وبعض من قيمتهم يتجلى أيضا بما لم يحسنوه، كانت أيديهم متعرِّقة أتعبها العمل، تلاعب الأفكار برؤوس أصابعها، ولكنها لم تكن تحسن إحكام القبضة على ناصية التلميذ، أو ربما هم أحسنوا أن يكونوا كذلك عمدًا، حتى لا يلتبس حبهم للحق بحب السيطرة، فلا يلتبس حبنا للاستقلال كتلاميذ بشوائب العناد في الباطل، نحن وهم على قدم سواء في الاحتكام للفكرة، ولكن أكتافهم عالية بعلمهم لا بمنزلتهم، طول قامتهم يخولهم أن ينزلوا ويقفوا معنا على أرضيتنا المشتركة، ولا يتحصنوا بارتفاع منصات المناصب.

أراهم وكأنهم مغانط دائمة الدوران تجذبني إليها من أعماق الجهل وما إن أصلها فمقامي بين يديها استحثاث لتيار الثقافة والفكر بسبب دوران أقطابهم المتكرر، واستحثاث لدوراني معهم، حتى تتصادف الأقطاب المتنافرة فيقذفني أحدهم بعيدا عنه إلى أعلى، باتجاه غيره، في قوس جديد نحو فلك جديد، ويبقى الدرس المشترك الذي يحرص كل منكم على إيصاله وافيا، أن المعلم الحق هو من يعلمك لا من يعلقك! من يشبه مشغل الحدادة الذي أنتج كل الآلات الأكثر تطورا منه، والتي لولاه لما كانت.

إلى بعض أهلي وبعض معلميَّ وبعض مشايخي وبعض أصدقائي وبعض الكتاب وبعض المفكرين، إلى بعض هؤلاء كلهم أقول: أحبكم… وأتعافى سريعا من تبعيَّتي لكم، بفضلكم أيضا.