هل تملك من الذكاء ما يسمح لك أن تدرك غباءك؟!
قد نختلف على تعريف الذكاء والغباء، وتعريف معنى أن تملك وأن تدرك وهذه أغلب أركان السؤال في الأعلى، لكن هذه الخلافات تبقى قابلة لأن تتقاطع أو تتداخل وتغطي منطقة مشتركة، بيد أن ما سنختلف اختلافاً جذرياً فيه هو تحديد من أنت! سؤال “من أنت؟” أو “من أنا؟” هو أول وأكبر الأسئلة الوجودية، وهذا هو الركن الناقص في كل الأسئلة التي تخصك وتحاول بما امتلكت من ذكاء ومعرفة أن تجيب عنها، ولك أن تتخيل كم سيختلف جوابك لو اكتشفت شيئاً جديداً عن نفسك.
في كلية الآداب والفنون الجميلة، كتب طالب في دفتر الإجابة، اسمه فقط، جواباً على السؤال الوحيد في الامتحان النهائي لمادة الفلسفة، وكان السؤال: “من أنت؟”، وعندما أعطاه مدرّس المادة علامة كاملة، غضب الطلاب الذين أجهدوا أنفسهم ونظارات أستاذهم بدفاتر الإجابة تلك، المتروسة عن آخرها بالاقتباسات الفلسفية، فأجابهم الأستاذ، هو أبدى قلقاً أقل، وأظهر أنه يعرف نفسه جيداً، بالنسبة لي الآن هو تلك الأصوات التي تتابع لتشكل اسمه، وأنا احتقرته على جوابه، لكن عليّ الاعتراف أن جوابه كان صحيحاً، وأنه بالفعل من لا يعرف من نفسه غير اسمه، فهو فقط مجرد اسم، لذلك إجابته صحيحة، والعلامة التي أعطيها حكمي على الجواب، وليست حكمي على شخص الطالب!
الدلافين أيضاً تسمي بعضها البعض بمقاطع صوتية، وتستجيب لذات الأصوات حتى ولو صدرت من دولفين لم تره من قبل، ثمّ تخيل كم يتغير مدلول الاسم خارج سياقه فهذه الأحرف (محمّد) قد تعني قائد العرب ونبيّ المسلمين عليه السلام، وقد تعني ملايين الاحتمالات الأخرى، فليس من مدلول حقيقي للاسم خارج سياقه، وتذكر أن اسمك نفسه كان نتيجة سياقه، فلو ولدت لأبوين روسيين في موسكو قد تحصل على اسم “سيرغيه”، فأنت كما لم تختر الأشخاص الأقرب لنفسك (أمك وأبوك)، ولم تختر دينك الذي قد تموت من أجله، لم تختر أيضاً بالمقابل اسمك الذي تعدّه محور ذاتك وتتختصر به نفسك، بل ويؤثر في مسيرتك في الحياة كثيراً، لن نتحدث عن تأثير معنى الاسم فهذا خاص بشعوب دون شعوب، أو عن تاريخ من تسمّوا بنفس الاسم من قبل، فهذا من الصعب محاكمته، ولكن تخيل أن الترتيب الألفبائي للحروف يؤثر! فأصحاب الأسماء التي تبدأ بأحرف تقع على أول السلم الهجائي، يملكون في الأغلب، تقديراً ذاتياً أعلى، من زملائهم الذين تبدأ أسماؤهم بحروف تقع في قاع سلّم الأبجدية، أي أن ابنك سيكون أقرب “إحصائيا” للرضى عن النفس إذا كان اسمه إبراهيم، منه لو كان اسمه يوسف! وهذا الرضى عن النفس آت من فكرة تسبق التفكير النقدي المنطقي السليم فتمتلك حصانة ضدّه، هي ببساطة تفسير طفولي لسبب تأخير المعلمة لاسمه على باقي الأسماء، فحتى لو اشتدّ عود عقلك فلست بالضرورة معافى منها لأنها نزلت في نفسك مكاناً أعمق من المنطق.
وحول “من أنت؟” وضع علماء النفس تفسيرات كثيرة للذات، فكان لها مركبّات منها الأنا العليا والأنا الدنيا، عند سيغموند فرويد مثلاً، والروح والجسد والنفس في بعض الفلسفات الدينية… إلخ، ومن أحدث التعريفات وأدقّها، فكرة “أنا الهوية/ أنا الحميمية/ أنا الخيال” حيث كلمات الهوية والحميمية والخيال كلها تبدأ في اللغة الإنجليزية بحرف “آي”، والذي يعبّر به في ذات اللغة عن الأنا الفاعلة، أو الأنا العليا عند فرويد، حيث الهوية هي المشكلة الأولى التي تواجه العقل، ومن الصعب أن يحسمها قبل انقضاء فترة المراهقة، تخيّل أنه من الممكن، بسبب مرض نفسي شُطِب من قاموس الأمراض النفسية في تسعينيات القرن المنصرم، بضغط من لوبيات الشذوذ الجنسي، أن يقتنع الشاب أنه فتاة، أو العكس، أي أنه من الممكن التلاعب في الهوية قبل انقضاء سن المراهقة، حتى بتلك المناطق المتعلقة بجنس الشخص الذي تفرضه عليه البيولوجيا، بل دعني أضع المعنى نفسه بصيغة أخرى، أنت ستبقى مراهقاً حتى تحل مشكلة الهوية، ثم تنتقل لحل مشكلة الحميمية، وتبحث عن شريك حياة، عن تعاطف إنساني، وجه يبتسم معك ويحزن لك ويشفق عليك، رفيق درب، زوج، شريك فراش، صاحبة، صديق، أهل، مجموعة، لكن رويدك لا تكابر فهؤلاء كلهم كناية عن الحميمية وليسوا هم الحميمية، فأنت تحتاج للأفعال الحميمة ولا يكفي أن تكون لك حبيبة، أو أن تمارسي الجنس مع زوجك، أو حتى أن تعانق الناس بدل مصافحتهم، لكي تكتفي حميمياً، فهذه حوامل للحميمية، أما الحميمية فشيء قد يحمّل عليها وقد تجرد هذه الحوامل منه، وأساس الحميمية هو وجود التعاطف، أن ترى نفسك في غيرك وأن ترى غيرك في نفسك، ثم فلتخرج علاقة التعاطف هذه على أي شكل كان، من الجنس وحتى الوقوف أمام لوحة فنية أو سماع قصيدة.
أما الخيال فهو ما ستقدمه أنت للكون الذي تنتمي إليه، وما ستتركه من أثر في دنياك، إنتاجك، أفكارك، حديثك، حكايتك، أعمالك، وهذا الباب يعيدنا للاسم في البيئة العربية، فالأسماء العربية لها معانٍ، وهذا أيضاً له أثره في تكوين الشخصية، وتحديد الهوية، بل إن الحكايات العربية وهي تحكى للطفل قبل المعارف الأخرى وبالتالي تبقى راسخة فيه، تحمل الشخصيات فيها أسماءً مطابقة للأفعال، هكذا نفهم البطلة “خشيشبون” التي ارتدت ثوبا من الخشب، و”نص نصيص” الذي ولد غير مكتمل الخلق كأخويه، بسبب أن أمه حصلت كزوجة قديمة على نصف برتقالة سحرية، حيث حصلت زوجة أبيه الجديدة على برتقالتين، وهذا ينسحب على كليلة ودمنة، وعلى القصص القرآني أيضاً، فانظر إلى شخصيات قرآنية من مثل (رجل يسعى) و (التي هو في بيتها) و (شاهد من أهله) و (الذي ظن أنه ناج) و (قائل منهم) و (بعض السيارة) و (من وجد في رحله)، وكامل الشخصيات ترد كشخصية وظيفية تسمى بفعلها وليس باسمها وتأخذ مكانتها في القصة من خلال موقفها، وهناك قول ينسب لعليّ بن أبي طالب يقول: “قيمة كلّ امرئ ما يحسنه”، هنا نعلم من طريق هرم الاحتياجات الانسانية، أو من طريق تحليل ألسنيّ للعقل الجمعي، أو حتى من الدراسات العلمية أن الإنسان يعرف قيمته من خلال الجماعة التي ينتمي إليها، وقد تركز حضارة على مركب واحد من المركبات الثلاث، أكثر من المركّبين الآخرين، وفي هذا يتفاوت المتفاوتون.
المعادلة تبدو بسيطة نوعاً ما، فنحن علينا أن نحدد هويتنا الحقيقية، بحيث نتخلص من اضطرابات الهوية، وهنا تنتهي مرحلة المراهقة، ثم نبحث عن بيئة حميمة تزودنا من الحميمية والتعاطف وتأخذ منا أيضا، ثم نمنح دنيانا مهما تكن (الحي/ العشيرة/ الأهل/ الحزب/ الوطن/ الأمة/ العالم/ الإله) صالح أعمالنا، لكن رويداً هل قلت أنها تبدو بسيطة! ليست بسيطة أبداً، ففي الثلاث مركبات دائما هناك غيرك، دائماً هناك ما هو خارج عن سيطرتك، أشخاص وأمور سابقة عليك ولاحقة لك ومزامنة لك، لكنها كلها خارج دائرة سيطرتك، فأنت في النهاية ككلمة في سياق، قد تكون قوياً بحيث تفرض معناك، لكن ماذا تفعل بسياق يمنحك ما يريد هو! أو يقودك كيفما اتفق!
هنا لابدّ أن نتحدث عن ذكاء المجتمع وذكاء الفرد، فحسب الإحصائيات لقد ازداد معدل معامل ذكاء الفرد، فمعدل معامل الذكاء “آي كيو” كان إبان وضعه حول ٧٠ نقطة، واليوم بات المعدل حول ١٣٠ نقطة، فالفرد بات أقدر على التجريد، والقياس، والمقاربة، والتحليل، والربط… إلخ، ولكن مع ذلك يحقق تراجعاً في كل مركبات الذاكرة والخيال، حسب الدراسة المرافقة لكتاب “جيل التطبيق” الذي سنتناوله في مقالة قادمة، وبما أننا وصلنا لأفضلية السياق على المعنى، ولكون الإنسان نتيجة بيئته، وما إلى ذلك، فدعنا نبحث في المجتمع والجماعة، فالمجموع هو من يملك القول الفصل، مع أننا لا ننفي أثر الفرد، لكن بالتأكيد ليس هناك سوبرمان! ويجدر بنا أن نشير لأن كل مركبات الذكاء من ذاكرة وربط وتحليل وتركيب بالنسبة للجماعة تتوقف على قدرة أساسية، وهي قدرة المجتمع على الاتصال، وهذه القدرة هي المقياس لدرجة تقدم المجتمعات بين بعضها البعض، والاتصال هنا قد يكون بين الأفراد والمجموعات داخل الجماعة، أو بينها وبين الأفراد والجماعات في مجتمع آخر، أو قد يكون بين أزمان أو أو حقول معرفية مختلفة، وهنا في الحقيقة مربط الفرس، أقول لك وبثقة مفرطة، وصوت مغرق في الوضوح: إذا كنت تعيش في مجتمع عربي ومع ذلك تحقق اتصالاً بفيلم أمريكي، أو أغنية إنجليزية، بشكل أكفأ من اتصالك بحكاية عربية قديمة، أو قصيدة لمجنون ليلى، فأنت تعاني من مشكلة هوية، وفي نفس الوقت المجتمع الذي ينتج المنتجات التي تحقق اتصالاً معك، هو مجتمع أكثر تقدماً من مجتمعك. لاحظ أن تقدم مجتمعك منوط بك أيضاً!
أما المجتمعات القديمة، التي كان فيها الفرد أقل ذكاءً من الفرد اليوم، فقد كانت أكثر ذكاءً من مجتمعات اليوم، فإذا اتفقنا أن المعارف يمكن تصنيفها لمعلومات على شكل وقائع وأنماط وانطباعات أو لنقل مواقف أو سلوكات “أتيتيود”، فالحكاية القديمة بأشكالها أسطورية اعتبرتها أم دينية أم شعرية، كانت تحمل كل المعرفة المراد إيصالها، من نمط مجرد متمايز عن الوقائع، ومن وقائع، ومن تعاليم وسلوكات، وانطباعات عاطفية شعرية، ربما هذا هو السبب أن الأساطير والأديان ما تزال تحقق اتصالاً قوياً حتى في مجتمعات اليوم، وهي تتكئ على قاعدة قوية جداً، تنم عن فهم عميق لطبيعة المجتمع، وعلاقة الفرد بالمجموع، تسمى “الانبثاق” وهي تأثر شكل الكل بصفات الجزء، فالطيور مثلا تتصرف في أسرابها ضمن قواعد بسيطة، لكن هذا يُنتج على مستوى السرب شكلاً غاية في التعقيد، وكذلك ما تفعله الأسطورة أو الدين في الناس، فهي تبني الفرد بناءً يجعله يتصرف بناءً على قواعد وإن كانت غاية في البساطة، لكنها تحاول أن تضمن الازدهار للمجموع -على الأقل هذا ما تدعيه- من خلال ما سينتج من أثر على الكل، وما سينبثق من الفرد على المجموع، لكن في قوانين اليوم تغفل المجتمعات الحديثة قوة هذه الطريقة، وكمثال سريع أنظر للفرق بين حقوق الإنسان، وبين واجبات الفرد في الأديان، على سبيل المثال هنا؛ المؤدى واحد بين “لكل إنسان الحق في الحياة” و “لا تقتل” لكن الفرق أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يخاطب المجموع توصلاً لحق الفرد، بصيغة (مطالبية)، والأديان أو التعاليم القديمة تخاطب الفرد توصلا لحقوق المجتمع عليه، وبالتالي حقوق أفراده، بصيغة (واجبية).
وها هي الأسطورة ما تزال فاعلة حتى في أحدث المجتمعات، رغم أن العقل العلمي قتلها وتخلص منها، ولأن الشيء بالشيء يذكر، فلنعد لدكتور الفلسفة الذي تحدثنا عنه في أول المقال، إذ أن أحد طلابه انتبه لوجود “خرزة زرقاء” في مدالية مفاتيحه، فسأله: “هل تؤمن بهذه الخرافات!” فقال الفيلسوف: “بالطبع لا أؤمن بذلك الهراء”. فقال له: “وكيف تعلقها إذاً ؟!” . قال: ” لأنهم أخبروني أنها تعمل سواء آمنت بها أم لم تؤمن”، وهذي هي الحقيقة المضحكة المبكية التي لم تهملها الأساطير نفسها، فرأس “أورفيوس” بقي يغنّي حتى بعد قطعه، و”أرفيوس” هذا هو ابن الإله أبوللو الذي برع في الشعر والموسيقى، والأروفية هي من أقدم جدّات فكرة التصوف، وما زال التصوّف دربا لتهذيب النفس وضبطها ليكتسب الفرد صفات بسيطة، تنبثق عنها طبيعة مجتمعه. فإذا كانت الخرافات رمزا للغباء الفردي فهذا لا يعني أنها غير قادرة على أن تولد ذكاءً جماعيا ما، والأسطورة ماثلة في نمطها حتى اليوم وسطوتها لم تنقص لكن لكل زمان أساطيره، وقد أدرك ذلك رأس المال قوتها وسطوتها على النفوس، فوظف فكرتها في صناعات نجوم الفن، وهم آلهة اليوم الذين يصلّى لهم (مُكاءً وتصدية)، لينتهي الأمر إلى جماهير تتعبد بطقوس اتباع موضة أبطالها، شراء المنتجات التي سوّق لها هؤلاء النجوم الآلهة، تذكر هذا ولا تنخدع! فالأذكياء حقاً يدركون مدى غباء واقعهم أو لنقل غبائهم المتصل بمجتمع غبي.
نعم قد تكون مفكراً مبدعاً، أو شاعراً مفلّقاً، أو رساماً ساحراً، أو مخترعاً مدهشاً، أو عالماً خارقاً، لكن في الحقيقة كل هذا يندرج تحت التفكير، وإذا كان التفكير سلوكاً فردياً، فالذكاء حالة جماعية، هذا ينطبق على كل مجموعة غيرت وجه التاريخ، ودونك فلاسفة الإغريق، والمسيح وحوارييه، ومحمد وصحابته، ولينين ورفاقه، لتصدق أن الذكاء بطبيعته جماعي، وهو متطلب حضاري للتغيير الحقيقي. نحن اليوم نتحدث كثيراً لكننا نتصل أقل، نصور كثيراً ونشاهد الصور لنتذاكر أقل، ونعاني من طوفان جنسي لكن بحب أقل، و نقرأ كثيراً لكن بفهم أقل، قدرتك على فهم من حولك وما حولك، وقدرتك على الوصول لهم، هما المتطلب الأول لكي تتمكن إمتلاك معنى حقيقي وبثه ونشر عدواه في سياقك، هكذا تبدأ حالة الذكاء الجماعي، ولأن حل المتاهات، كما يعرف هواة المتاهات جيداً، أسهل من النهاية إلى البداية، فطريقك لذاتك يبدأ من الاتصال بغيرك وفهم قومك، والعمل معهم والإضافة لهم (الخيال)، ثم التعاطف وامتلاك حس إنساني مرهف وراقي وثقة ببيئتك الحميمة وقدرة على الحب (الحميمية)، ثم أن تعرف معناك، وتتصالح معها فتحتفظ بما تحب وتتصالح مع ما لا يتغير، وتفرض معنى انت تصنعه وتضيفه لنفسك (الهوية)، هكذا تكون قد بلغت ذاتك، وتكون كلمة فارقة في جملة مفيدة، وحينها لن ترى سؤال “من أنتم” صعباً. ويبقى أن نذكر ونشدد على أنه لا يجوز اتخاذ الغباء الجماعي عذراً للغباء الفردي، اشتعل أنت وانقل العدوى لغيرك، فالجمر يوقد بعضه بعضاً.