الحرب في كبسولة

لو كان لنا أن نلخّص الحرب الوجوديّة شديدة التعقيد التي نخوضها في جملة واحدة، فإنّها ستكون شيئا من قبيل: (أفنِ عدوّك، وأبقِ على حياتك).

هذا ما يفهمه الأعداء بوضوح، وقد كانت الأولويّة القصوى لدى الكيان أن يحافظوا على “طبيعيّة” حياة الصهاينة وزوّار الكيان رغم “التهديد اليوميّ” كما سمّاه نيت سيلفر في كتاب الإشارة والتشويش، ولذلك صنعوا “القبّة الفولاذيّة”، وهذا أيضًا ما يلاحظه من يعير انتباهًا للضرر الذي تلحقه المقاومة بالعدوّ، أي من يراقب كيف تؤثّر العمليّات والقصف الصاروخي على أعداد المهاجرين إلى الكيان من شذّاذ الآفاق في العالم الذين يستغلّون قانون “عودة اليهود”، ومن يراقب أعداد المهاجرين منه.

الليبرالي العربيّ حتّى لو كان في صفّ المقـ.ـاومة (وذلك نادر)، فإنّه يتعامل مع المعارك على أساس قيمتها التفاوضيّة. كيف يمكن حساب مستجدّات المعركة في ميزان الربح والخسارة، وهذا يجعله يشكّك في جدوى صواريخ محدودة القدرة التدميريّة من جهة دقّتها ومن جهة طاقتها الانفجاريّة، أيّ إنّ مشكلته تكمن في الشقّ الأوّل من المعادلة، فهو لا يفهم فكرة “إفناء العدوّ”.

والإسلامويّ يقع في مطبّ آخر، يتعلّق بالجزء الثاني من المعادلة، أي إنّه لا يفهم أنّنا يجب أن نبقي على مظاهر الحياة، وأن تظلّ بلداننا أثناء المعركة نابضة بالحياة، ومقـ.ـاومة في آن معًا. هو يرى أنّ إفناء العدوّ لن يحدث حتّى ينتصر على جزء من مجتمعه يراه على أنّه “أعداء الداخل”، فكم مرّة سمعت من على المنبر أنّنا لن ننتصر حتّى تكون صلاة الفجر كصلاة الجمعة؟

حسنٌ، لقد آن أن نواجه الواقع، وكما قال أحد قادة المقـ.ـاومة الفلسطينية قديما: “حربنا طويلة، فليتنحّ قصار النفس جانبًا”، هي حرب طويلة جدًّا، يفهم فيها كلّ فلسطينيّ أنّ حياته غير طبيعيّة بسبب الاحتلال، وأنّ عليه أن يعتاد ذلك، وأنّ الشهادة والقتال سيظلّان أمرًا يوميًّا زمنا طويلا قبل أن ينتهي كلّ ذلك بإعلان نصرنا.

أفنِ عدوّك، وأبقِ على حياتك. وحياتك هنا تشمل ثقافة مجتمعك، وتشمل اتّصالك بالزمن المعاصر، أي تشمل “ظريف الطول” وسائر التراث، كما تشمل إنتاج الأدب والعلم. وإفناء العدوّ يشمل تكدير “طبيعيّة حياته اليوميّة”، ويشمل تخفيض عدد المتقدّمين على جنسيّة الكيان من يهـ.ـود العالم، ويشمل أن تدفع المهاجرين الجدد والقدماء إلى الرحيل عن بلادنا وربّما إسقاط الجنسيّة حتّى لا يخدم أبناؤهم في جيش الكيان.

أرأيت! يعني ذلك أن تبقى المهرجانات في الدول العربيّة، وأن ترتفع الأعلام الفلسطينية مع الأعلام العربيّة في المحافل، وأن يظلّ العربيّ حضنا للفلسطينيّ الذي يحلم بالرجوع، وألّا يتحوّل العربيّ إلى عربيّ قادم من عصور سالفة متخيّلة، وألّا يتحوّل إلى مسخ أوروبيّ.

وحدهم أصحاب الخطّ الوطنيّ، والفكر القوميّ يفهمون هذا. فلسطين لم تحتلّ بسبب فلسطين، ولن تتحرّر دون أن تكبر الحرب لتصل إلى حجمها الطبيعيّ، إذ تكون الهمّ اليوميّ للسوريّ والجزائريّ والعمانيّ… إلخ.

لا تشعر بالذنب لمجرّد أنّك تعيش، بل عش حياتك كاملة، وخذ صفًّا سياسيًّا فاعلًا، فأنت بعض هذه الأمّة، وأن تعيش أنت يعني أن تبقى أمّتك على قيد الحياة، لكن لا تعش كأنك فرد منتزع من سياقه… هذا كلّ ما في الأمر.

تخيّل أن يتوقّف الفلّاح عن الزراعة بسبب الحرب، وأن يتوقّف الإنتاج الفنّي الذي يشكّل اللاوعي المجتمعيّ بسبب الحرب، وأن… إلخ، فإنّ ذلك يعني خسارة الحرب على كلّ صعيد، حتّى لو كان ثمّة تقدّم على الجبهة.