تتعدّد ردّات الفعل على الأعمال الدرامية منذ بدأت الدراما، لكنّ وجود معادلات وأنماط جاهزة يبنى العمل الفنّي عليها يحدّ من هذا التنوّع، إذ إنّ المشترك بين الأعمال الدراميّة يزيد على حساب شخصيّة الأعمال، وهذا ما انتبهت له دور السينما التي تحاول تكرار تجربة الربح فتعيد استغلال الأنماط التي تكتشف نجاحها أو تصدر أجزاء ثانية وثالثة من الفيلم الذي نجح، فكان أن أنشأت دور الإنتاج هذه شركات للأفلام التي فيها هامش تجريب عالٍ.
وجود أنماط ليس عيبا على الإطلاق، وهو إذا كان عيبا، فهو في الحقيقة عيب فينا نحن لا في صنّاع الدراما، وهذا ما لاحظه جوزيف كامبل في كتابه البطل ذو الألف وجه، إذ استكشف الأنماط في الشخصيات السردية الأسطوريّة، وكذلك استكشف خزعل الماجدي بنية السرد الأسطوري في كتابه عن المندالا الأسطورية، فإذا كنّا اشترطنا للقصيدة وزنا وقافية، فالسرد مليء بالشروط أيضًا.
الآن، باتت القصة اكثر دقّة، وبالآتي أكثر تشابها، فالذكاء الاصطناعيّ الذي وظّفته منصّة العرض نتفليكس قادر على تمييز مواصفات دقيقة في المادّة الفيلمية، وعلى أساسها يستطيع أن يجيبك عن إذا كان على القصّة أن تحتوي خيانة مبرّرة، أو انتقاما بشعا، أو أي صفة داخلية، بل وخارجية أيضا مثل الموعد الأمثل لإطلاق المادّة.
وبسبب هذه المعلومات تحوّلت نتفليكس إلى دار إنتاج، وبحسب تعبير أحد القائمين على هذا التحوّل “كنّا نريد أن نتحوّل إلى إتش بي أو قبل أن تتحوّل هي لنا”، وقد أطلقت نتفليكس تحدّيا للمبرمجين من قبل ذلك، لمن يستطيع أن يتوقّع بدقّة تقييم الفيلم بذكاء اصطناعيّ ذاتي التعلّم. وثمّة عوامل كثيرة تدخل: إكمال مشاهدة المادّة، الوقت الذي تتمّ المشاهدة فيها، التقييم، الصفات المشمولة في النصّ… إلخ. عموما القصّة طريفة جدّا ومنشورة في عدّة كتب من كتب الذكاء الاصطناعيّ منها (إيه آي كيو: معامل الذكاء الاصطناعي).
عرفنا إذًا أن نتفليكس قادرة على التنبّؤ بالمعادلة بعد أن تعمل في سوق ما مدّة من الزمن، والآن دعونا نرى مواصفات أخرى في عمل جديد “مدرسة الروابي” تجعله مؤهّلا للنجاح:
- تستهدف دور الإنتاج سنّ الطلبة في الثانوية والجامعات لأنهم الأكثر مشاهدة للأفلام في السينما، وهذا قديم.
- الموادّ التي تدور حول المدارس من الموادّ الأكثر مشاهدة منذ زمن.
- الناس عموما تحب الجريمة المبرّرة، أو تجاوز القانون بدوافع أخلاقيّة، فهذه موادّ تفتح أسئلة فلسفية.
- أطلق المسلسل قبيل دوام المدارس في الأردن، وهذه حركة مدروسة جدًّا، فإن لم تكن فهي ضربة حظّ هائلة.
- العنف، الانتقام، خروج الوحش من الطيبين، المخطّطات المحكمة: كلّها صفات محبوبة في الأعمال الدرامية على نتفليكس.
بدأ العمل على المادّة منذ مدّة، وقد رأيت مقابلة للمخرجة والكاتبة بعيد إطلاق مسلسل جن، والذي فشل جماهيريّا، رغم أن الدعاية السلبية لعبت دورا في تسويقه. وهنا كان على صانعي المسلسل أن يضعوا في المسلسل ما يجعله قابلا للدفاع عنه في بيئتنا مع كونه مثيرا للجدل، وألّا يكتفوا بالمعادلات النتفليكسية القائمة على أسواق أخرى. وبرأيي قد نجحوا (نجحن) في ذلك إلى حدّ بعيد.
نقاط القوّة:
المسلسل فيه شخصيّات حيّة متحوّلة، يمكن تصديقها إذا سمعت عنها.
التصوير يشبه الموادّ من الفئة ذاتها في الأعمال الأمريكية.
التمثيل لا سيما تمثيل الفتيات ناجح جدًّا.
ثمّة ما هو غير مرويّ في القصّة -قصة تحتيّة- مثل إهمال فرصة الحبّ من أجل الانتقام.
ثمّة حكاية واضحة يمكن سردها والاستمتاع بها دون تمثيل.
ترويج الموسيقا البديلة على طول المسلسل فكرة مهمّة.
مونتاج المسلسل كان منفّذا بحرفيّة عالية، والتنقّل بين الشخصيات موفّق.
التركيز على التباين بين المثل المنطوقة والتصرفات الدنيئة.
نقاط الضعف:
لحظات التحوّل ذهنية أكثر من كونها عملية، إذ تستذكر الشخصيّات تجربتها بدلا من أن تمرّ بظرف جديد، أو نرى تحوّلها في تصرّف داخل حكاية فرعيّة.
هذا جعل الشخصيّات المشخّصة أمام الشاشة غير قابلة للتصديق 100%.
ثمّة أمور غير ثابتة في أسلوب المونتاج، إذ نرى قفزات قليلة، ولا نراها سمة عامّة، مع أنها غير ملاحظة بصورة كبيرة.
تمثيل الممثلين المعروفين ضعيف وهذا ناتج في تقديري من تعالٍ موجود لديهم أمام صنّاع العمل الشباب.
قاموس الشخصيات في الحوار غير مدروس إلى الحدّ الذي يظهر تعدّد الأصوات- البوليفونية.
انحسار القصص الفرعية التي تخدم الحكاية الأساسية.
الالتفاتة حول شخصيّة ليث في نهاية المسلسل لم تكن موفّقةً برأيي.
هذا ما تتوقّعه من نقاش لدى نشر مثل هذه المادّة، وقد يختلط بنقاش القضيّة التي يناقشها المسلسل أي “التنمّر”، أو “الزعرنة”، أو حتّى القضايا الفرعية مثل لوم الضحيّة، وجرائم الشرف، وغيرها من قضايا مرّت في المسلسل، لكنّ النقاش في الساحة الأردنيّة اقتصر على إن كان هذا المسلسل يمثّل المجتمع أم لا.
وهذا النقاش يستدعي كلاما آخر تماما:
ثمّة طريقتان فقط لتحصل على “عمل فنّي يعبّر عنك”، والطريقتان تشتركان في أغلب الخطوات، وتختلفان في خطوة واحدة.
الخطوات المشتركة كثيرة وطويلة، وتشمل ضمنها:
- أن تعرف من أنت، بكل أبعاد هويّتك الحقيقية.
- أن تفصل ماذا تريد أن تكون عن ما الذي أنت عليه الآن.
- أن تتقن شروط التعبير الفنّي.
- أن تتقن شروط تحميل الفنّ “رسائل” دون أن يتحوّل إلى عمل تافه.
- أن تعرف أنّه لا فنون دون حرّيّة، وبالآتي أن تنتزع هامش حرّيّة يمكنك العمل داخله.
- أن تقدّم التقدير المعنوي للفنانين والفنّ، لا سيّما الفنّانين المحلّيّين.
- أن تعلي من شأن النقد والنقّاد بقراءة النقد ونقاشه، وتوفير بيئة تشريعية تسمح به.
- أن تفرّق بين ما هو ممكن وما هو مرغوب.
أمّا الاختلاف بين الطريقتين فيقتصر على الخطوة الأخيرة، والخطوة الأخيرة في كلّ من الطريقتين هي كالآتي: - الأولى: أن تملك حكومة تعبّر عنك، وأن تكون الحكومة من الكفاءة التي تسمح لها أن تدير الحركة الفنّيّة بصورة ناعمة، وتنتج بمال الشعب موادّ فنيّةً وترفيهيّةً، وأن تستطيع حماية الفنّان إذا عبّر من التطرّف الذي لا يعبّر عنك أيضًا. (الطريقة الاشتراكيّة والشيوعيّة)
- الثانية: أن يكون مجتمعك سوقًا حقيقيّة للفنّ، ويدفع المال لقاء الفنّ الذي “يعبّر عنه” ويستهلكه بالفعل، لتغري المنتجين أن يخاطبوك. (الطريقة الرأسماليّة).
وفي كلّ الحالات، لا بدّ من التذكير أنّ العمل محدّد بفئة عمريّة، إذ ثمّة اعتراضات على اللغة، وهنا فالقائمون على العمل نفّذوا واجبهم، ويبقى أن يلتزم الأهل بواجبهم وألّا يسمحوا للطلبة دون السنّ المحدّدة بمشاهدة المسلسل. أقول هذا في مجتمع لا يلتزم بشيء من هذا، ويفتح صفحات تواصل اجتماعي لأطفال رضّع.
وعموما، فإنّ بلوغ النقاش إلى هذا الحدّ يعدّ إنجازا في ساحة المسلسلات الأردنية الحديثة. فشكرا لصنّاع العمل.