قبل أن ندلف إلى محاولة الإجابة عن هذا السؤال، يجدر بنا فحص فكرة أو أكثر:
هل ما يردّده الناس بتكرار كبير صحيح بالضرورة؟
في الحقيقة،الإجابة هي: لا. وهي لا كبيرة، لكن يبقى أن نؤكّد على وجوب البحث عن أسباب شيوع الفكرة، بمعزل عن التسليم بصحّتها، فلا بدّ أنّ لشيوعها أسبابا.
هل يضمن تشابه التسمية تشابه المسمّيات أو المضمون؟
الإجابة هنا هي: لا، بالتأكيد لا. فالتسمية فعل إنسانيّ له مقاصد مختلفة متنوّعة. ألم يسمّ العرب الذي لدغته أفعى “سليما”، والشخص الذي لديه اعوجاج في الساقين “أحنفَ”؟ هم كانوا يريدون التفاؤل فقط، وكثيرا ما أطلقت تسميات قديمة على أشياء جديدة جدّا، فالهاتف هو الشخص الذي هتف أي صرخ، وجاءه هاتف من السماء أي ناداه صوت من السماء، لكنها صارت بمعنى هذا الجهاز الذي قد تكون تقرأ منه ما أكتب.
هل لكل شيء من اسمه نصيب؟
إذا سمّينا عمليّة ما باسم خدمة العلم، فهل هذا يجعلها خدمة للعلم فعلا؟ مع العلم أنّ من الناس من يشكك بكون التجنيد العسكريّ كلّه خدمة للعلم من الأساس، أي دون تغييرات في طريقة الخدمة. ليس ثمّة ضمانة لهذا.
تطالعنا في الصحف أخبار حول الأردنّ، تقول: إنّ الحكومة تعتزم إعادة خدمة العلم، لكن بحلّة جديدة. أتى الشرح بعد ذلك، فقيل لنا: إنّ الشاب الذي لا يعمل، والذي لا يدفع ضمانا اجتماعيّا، سيؤخذ إلى تجنيد إجباريّ لمدّة ما، منها 3 أشهر يقضيها في العسكريّة، وبعد ذلك يحوّل إلى شركة خاصّة يعمل فيها أو يتدرّب مقابل الحدّ الأدنى من الأجور، يتكفّل بأجره صاحب العمل بنسبة ما، والحكومة بنسبة أقل. أي إنّ العاملين سيدفعون مالا على صورة الضرائب، ثمّ تصرف في سبيل تصحيح سلوك من لا يعملون.
في هذا الخبر أو الخطّة إذا صح الخبر، ثمّة افتراضات كثيرة:
أولا: مشكلة البطالة هي في من يتعطّل عن العمل، لا في النموذج الاقتصاديّ المتّبع، وأنا أقول: إنّ هذا الافتراض مصيبة.
ثانيا: أنّ القطاع الخاص سيفرح بوجود أيد عاملة رخيصة وسيسارع إلى توظيفها. وهذا افتراض خاطئ، على الأقلّ إذا أخذنا بعين الاعتبار فكرة أن نموّ الاقتصاد مرتهن بنموّ السوق، فكم من منتج ينجح العامل بإنتاجه ويفشل في تسويقه.
ثالثا: إنّ الشباب يمكنهم أن يستمرّوا في العمل بعد ذلك، فقط لأنّهم تلقّوا تدريبا على مهارات إدارة الذات. وهذا الافتراض خاطئ أيضا. هذا لأنّ التدريب ليس بالضرورة أن يحدث الدربة، لا سيما بصورته المتداولة.
رابعا: إنّ الحدّ الأدنى من الأجور يكفل للفرد حياة كريمة.
لا أريد جعل المقالة تمرينا على تحديد الافتراضات، لذلك سأكتفي بهذا القدر. وسأقفز إلى أسباب الاعتقاد الشائع الذي يجعل هذه الأفكار قابلة للتداول، وقد يكون فيها ما يوضّح خطأ الفكرة.
العسكرية القديمة كانت تلتقط الفتى من المؤسسة التعليمية التي لم تكن تختلف كثيرا عن العسكريّة في كثير من أعرافها، ولذلك فقط كانت ترسّخ الخلق المدرسيّ القديم.
العسكريّة كانت تكسر الشخص لتعيد بناءه، في عملية معروفة في إحداث التغيير في السلوك بعض النظر عن أثرها على الإبداع، والإخلاص. وكان هذا يحتاج عزل الشخص عن بيئته لمدّة 6 شهور. واتباع تقنيات وحيل كثيرة لن يكون بمقدور الحكومة تطبيقها مع الشباب اليوم.
العسكريّة كانت تتضمّن خلط فئات المجتمع جميعا، لكنّ الخطّة ستخلط الفقراء فقط، وهذا لن يصنع مواطنا مخلصا، بل قد يصنع مجموعة معادية للمجتمع ترى نفسها ضحيّة ظلم وتنمّر.
أخيرا فالحكم على أن رجال الزمن السابق خير من رجال الزمن المعاصر فيه كثير من البهلوانية غير المدروسة، وتقوم على مظاهر هي أصلا وليدة الزمن، وليست مطلقة.