حوار حول المَنْجَمِيّة 1

آثرت أن أفصل هذا المقال عن الكتيّب أو المقال المطوّل (التنقيب عن المعنى)؛ لأنّني أظنّ أنّ الاستطراد في الأفكار التي سترد هنا سيكون نوعًا من التكرار في ذلك الموضع، ولكنّه هنا شرح وترسيخ وضرب أمثلة لهذه الطريقة في معالجة الأفكار.

ولقد منحني نشر الكتيّب وإرساله لبعض الأصدقاء والأساتذة بعض المنظورات، فعرفت ما يجدر بي توضيحه من جهة، ومن جهة أخرى استكشافه حول هذه الفكرة، وعن ضرورة أن تصاغ بصورة مستقلّة عن مجرّد التعلّم والتثقيف والمطالعة، وقررت أن أورد أسئلة توضيحيّة وأن أجيب عنها لتوضيح المفاهيم.

  • كنت قد تطرّقت إلى أنّ المنجميّة تتعامل ببراغماتيّة مع الأفكار عبر التخصّصات العديدة، وتبحث عن القيمة الاستعماليّة للفكرة والنمط، فإلى أيّ حدٍّ تتقاطع مع الفلسفة البراغماتية؟

الفلسفة البراغماتية تتبنى موقفًا عمليًا تجاه الأسئلة الفلسفية حول الحقيقة والجدوى وغيرها، حيث تركز على النتائج العملية والفائدة التي تجلبها الأفكار. تقيّم البراغماتية الأفكار بناءً على قدرتها على تحقيق نتائج مفيدة في الحياة اليوميّة، مما يجعلها فلسفة مرنة تهتم بالتطبيق العملي.

في المقابل، تتبنى المنجمية نهجًا شاملاً ومنفتحًا على مصادر متنوعة، دون الالتزام بموقف فلسفي محدد. المنجميّة تسعى لاستخراج الأفكار والعناصر القيمة من مختلف النصوص والتجارب الحياتية، مستخدمةً أدوات تحليلية متعددة وتمدّ المجاز إلى تسمية هذه العملية فتعطي أسماء مثل المعول والمجرفة والمصباح، لتطبيقها بطرق تعزز الفهم العميق والنمو الفكري.

من المهم أن نفهم أن البراغماتية قد تجد صعوبة في التوافق مع فلسفات مثل المادية الجدلية أو المثالية، لأنها تركز على الفائدة العملية بينما قد تكون هذه الفلسفات أكثر تركيزًا على النظرية والأفكار المجردة. على العكس، المنجمية تستطيع أن تتوافق مع فلسفات متعددة، بما في ذلك البراغماتية والمادية الجدلية وغيرهما، لأنها تتبنى منهجًا مرنًا يسمح بدمج الأفكار من مصادر متنوعة لتحقيق نظام فكري متكامل.

البراغماتية ليست مهتمة بالاتساق الفكري بين الأفكار المختلفة ما دامت هذه الأفكار تؤدي إلى نتائج عملية مبتغاة. بينما تهتم المنجمية بالاتساق بين الأفكار وتسعى إلى بناء نظام فكري متماسك من خلال استخراج الأفكار والأنماط وتطبيقها بطرق جديدة، وتنظر ببراغماتيّة إلى هذه الأنماط، لا إلى كلّ شيء.

بشكل عام، البراغماتية تركز على الفائدة العملية للأفكار وتعامل مع النتائج العملية دون اهتمام كبير بالاتساق الفكري أو التوافق مع الفلسفات الأخرى. في المقابل، المنجمية تتبنى نهجًا أكثر شمولية، تهدف إلى تجميع الأفكار من مصادر متنوعة وتحقيق الاتساق الفكري، مع القدرة على التكامل مع فلسفات مختلفة دون تعارض. هذا يجعل المنجمية إطارًا مرنًا وقابلًا للتكيف يمكنه استيعاب الأفكار وتطبيقها بطرق متعددة لتحقيق فهم أعمق ونمو فكري.

  • هل يمكنك الإتيان بأمثلة أكثر وضوحًا على التعامل المنجميّ مع النصوص، وعلى أنماط الأفكار التي تهتمّ هذه الفلسفة باستخراجها من النصوص المختلفة؟

نبدأ أوّلًا من فكرة جاءت من الواقع، أقصد هنا كيفيّة التنقيب عن شيء يهمّنا بين أمور أخرى لا تعنينا، وهو اسم الفلسفة ذاتها، فقد نظرنا هنا في هذه العمليّة عمليّة التنقيب في المناجم، ثمّ قرّرنا أنّ هذه الطريقة ذاتها مناسبة جدًّا لأخذها وتطبيقها في البحث عن الحقيقة ومعنى الحياة وغير ذلك ممّا يكون في مجال تركيزنا. كان أوّل توظيف لهذا المجاز بالنسبة لي مقالًا بعنوان “ضربات في منجم الحقّ”.

هذا المجاز حول المنجم جعل القراءة والبحث منجمًا لاستخلاص موادّ قيّمة وصناعة أدوات أخرى تمكّن العقل من أداء عمليّات أعقد، واهتمّ بالعواطف الإنسانيّة وأنماطها أيضًا، وجعل مجاله الأدب والفنّ وأدبيّات العلم والواقع ذاته. أي إنّ اسم هذا المنهج هو بذاته مثال جيد على تطبيقه.

في مثال آخر نجد نكتة أتت على صورة شكوى صديق يحتاج نظّارته ليستعملها في البحث عنها، وهذا مثال على معضلة أنّك بحاجة لشيء يكون أداتك في إيجاد الشيء ذاته. هذه الحلقة الشرّيرة التي ستبقى تدور فيها دون توقّف، لا سبيل لكسرها سوى الاستعانة بشيء آخر غير النظّارة. إنّها مثال جيّد على أنّ الدول أو الأشخاص العالقين في معضلة الاستدانة مرّة بعد مرّة لسداد الدين ذاته هي في حاجة ماسّة لشيء آخر تمامًا غير المزيد من الديون (النظّارة ذاتها).

فكرة ثالثة تتعلّق بالتنظيمات السياسيّة التي ظلّت تقوم على مجاز الجهاز العصبيّ للإنسان، وفي مقال بين الأخطبوط والجذمور عرضت لمجاز آخر مختلف يمكن البناء عليه في تكوين التنظيمات لا سيّما في الظروف الحاليّة لحركات التحرّر حيث يصعب بناء تنظيم ذي قيادة مركزيّة أمام عين الأعداء.

في الحقيقة ثمّة الكثير من المجازات التي يمكن استعارتها، والتي جرى استعارتها بالفعل منذ القدم من مجال إلى مجال لتكون ذات قيمة عمليّة أو علاجيّة. وهي قبل كل شيء ذات قيمة تواصليّة فهي توضّح المفهوم توضيحا لا يخرجه من سياقه ولا يبقيه حبيسا في سياقه.

مثال آخر، وهذا من المفكّر القوميّ العربيّ ساطع الحصريّ الّذي نظر إلى الأمّة العربيّة نظرته إلى نهر النيل، فقال إنّ النيل له روافد وفروع وصفات مختلفة في كلّ مكان منه، ومن روافده ما استحقّ اسمًا خاصًّا به، ومنها ما بقي ملتصقًا باسم النيل، كذلك الأمّة العربيّة في امتدادها الزمنيّ والجغرافيّ، وهذا ما أعفاه من تحديد الأمّة على الطريقة الأوروبيّة. بالمناسبة استخدم الكاتب مؤمن المحمّديّ المجاز ذاته في توضيح الدين الإسلاميّ بفرقه ومذاهبه والأديان الأخرى المنبثقة منه.

مثال أخير، تقدّم مدرّبة الكتابة العلميّة جودي سوان طريقتها المستعارة من الأدب في الكتابة العلميّة، فتوضّح خلال ذلك أنّ العلماء كالسياسيين والأدباء يمكن لهم أن يكونوا براغماتيين جدًّا فيما يخصّ اللغة، فيستخدمون التقديم والتأخير، والإطناب والاختصار، وغير ذلك من المفاهيم الأدبيّة في توجيه ذهن مموّلي الأبحاث وأذهان القرّاء إلى المكان الذي يريدونه، والذي ليس بالضرورة هو المكان الذي تفرضه النتائج البحثيّة السابقة، أو الحقائق العلميّة، يفعلون ذلك دون أن يكذبوا.

  • هل ثمّة حاجة حقيقية إلى فلسفة منفصلة كهذه؟ أليست في النهاية طريقة موجودة في الذهن الإنسانيّ قبل إطلاق تسمية خاصّة عليها بصفتها فلسفة؟

الأمر هنا أوسع من الأمثلة التي ذكرت، إنّه يتلخّص في الاعتناء بصندوق الأدوات جيّدًا قبل الغوص في البحث، ولا غرابة و لا مانع من إعادة البحث في المكان ذاته إذا وجدت أداة جديدة. كما أنّ البحث عن المادّة المفيدة يتداخل مع صناعة الأدوات، هذه هي عمليّة التدارس المنجميّ في أكثف تعبير عنها.

بعد ذلك، تتيح فكرة المنجميّة للإنسان العاديّ، الذي ليس بالضرورة أن يكون مهتمًّا بالفلسفة وتاريخها أن يعبّر عن أيدولوجيّته الخاصّة التي يبنيها لبنة لبنة، وأن يمزج بين نظرته الفكريّة وبنائه العاطفيّ، فهو يبحث في الأدب والفنّ على طريقة السوابق القضائية عمّا يعينه في معرفة غايته وبلوغها، ويحميه من تبنّي نظرة تخصّ إنسانًا آخر عن الحياة وجدواها، إنّها تمنحه احتمالا للاستقلال الحقيقيّ، فهو يستخرج بأدواته الخاصّة، وأدوات جماعته التدارسيّة المادّة الخام فقط، أمّا تنقيتها وتوظيفها في حياته فهو شأنه أو شأنهم، أي إنّه أقرب إلى حالة بلد يفتح منجمًا ومصنعًا خاصًّا به، من قربه إلى من يستورد التصوّرات الجاهزة عن العالم.

دعني أوضّح الأمر بحكاية شخصيّة، لقد لاحظت خلال حواراتي الفكرية والسياسية أن كثيرا من الأصدقاء يكون مقتنعًا بكون الفيلسوف الفلانيّ هو الأقرب للحقيقة، لكنّه اطّلع على نقاش وحيد أقنعه بألمعيّة الفيلسوف وقد يكون اقتنع بفكرة وحيدة للفيلسوف الذي يناصره، لكنّه بسبب تلك الفكرة أدخل اسم هذا الفيلسوف في هويّته الشخصيّة والتنظيميّة، وبدأ ينظر إلى نفسه بوصفه تابعًا له.

الأمر الشخصيّ هنا هو أنّ ما رأيته من أنواع التقليد الذي يشبه هذا في الأدب والسياسة، جعلني أحرص على المسافة بيني وبين أكثر الأجرام الفكرية أو الفنيّة جاذبيّة لي، وكنت أنظر إلى هذه المسافة على أنّها مسافة أمان تمنعني من الذوبان في الآخر. ومن ذلك أننّي امتنعت عن قراءة شاعري المفضّل حينها، وهو البحتريّ، حتّى تعافيت من أنماط معالجتي للفكرة الشعريّة عن طريق المفارقات كما يفعل هو، وبعد ذلك عدت أقرؤه وأنا عليم بخصيصته تلك فلم أذب فيه، وكانت لي شخصيّتي الشعريّة المستقلّة، أو هذا ما أحبّ أن أعتقده. أعتقد أنّني لو غصت في شعره في ظلّ حداثة تجربتي، كان سيكرّس في عقلي طريقة معالجته للأمور، بل والأحاسيس أيضًا، وحينها قد أكون صدى آخر له فقط.

يُتبع…