امتدّ وجود العربيّ إلى كلّ أرض يصلها جمله، فكان ثمّة وجود عربيّ قديم في أقصى الشمال الإفريقيّ غربا كبلاد الشنقيط (موريتانيا)، ولم يكن للعرب حضور جماعيّ في بلاد أقرب بكثير لأنّ بينها وبين العرب جبالا لا يقطعها الجمل، وفي هذا قول شهير: “وصل العرب إلى حيث يصل الجمل، ووصل الإسلام إلى حيث تصل الخيل”.
من الجدير بالذكر أنّ العرب تكيّفوا مع بيئات قاسية غير مرغوبة لغيرهم، لا يشاركهم في هذا غير الطوارق ربّما، وهي بيئات متّسعة فيها مندوحة عن الاقتتال عليها، مع أنّهم قديما احترفوا الغزو والسلب وكانوا يفاخرون بهذا، لكنّهم قلّما تنازعوا على مضارب، ليصبروا على جوار جائر، أو حذر من غادر.
ولأنّ الحياة قديما لم يكن فيها حدود واضحة، وجوازات سفر، فقد تجاور العرب مع أقوام أشقّاء لهم، لهم ألسنة أخرى، ولغات مختلفة، دون الحاجة إلى الصدام والاقتتال، حتّى جاء نظام (دين) جديد، فيه ملك وخراج ومكوس، فكان الداخلون في هذا النظام (المسلمون) يغزون الأقوام الأخرى، وفي الوقت نفسه يشاركونهم السلطة، فمنهم وزراء المال السريان في بلاط معاوية وهم رهابنة، ومنهم حاكم سبتة يوليان النصراني، وغيرهم مختلفون في الدين والإثنية.
لهذا نستطيع أن نرى أن ضفيرة العروبة والإسلام ضفيرة لا يمكن تفكيكها، ولأن الإسلام دين دعويّ لا قوميّ، فإنّه كسب كثيرا من أهل تلك الأمصار، وصارت العربية صفة الأرض كما الإسلام، وقد تقنّعت كثير من التقاليد غير العربيّة بالإسلام لتجد لها مكانا، فنرى مثلا أن “بوجلود” وهو صورة وثنية أمازيغية عن “بان” على الضفّة الأخرى من البحر المتوسّط، الإله المعزى الذي بيده السعادة والخوف، صار طقسا يمارس في عيد الأضحى. وهذا مثال واحد من أمثلة كثيرة على امتداد المنطقة، ولن أخوض في علاقة الحج الحسينيّ بالديانات الأوزوريسية، أو غير ذلك.
هذه المنطقة خليط حقيقيّ من الأقوام القديمة الشقيقة، والتي لم تجمعها دولة واحدة غير دولة الإسلام، وبتنا نشير إلى كلّ من فيها باسم العرب، لأن غيرنا أشار لنا بهذا الاسم، ولأنّ الشكل الحديث للدولة لا يحتمل الهيئة القديمة التي تشبه جزرًا للأقوام الأخرى في بحر من صحارى يسكنها البدو الرحّل وأكثرهم من العرب، ولأنّ العربيّة لغة تجارتهم، ولأنّها قريبة من لغاتهم بحكم الاشتقاقات الألسنية القديمة فقد سادت اللغة على غيرها، بالإضافة إلى العامل الأساسيّ وهو كونها لغة الدين الإسلاميّ الذي اكتسب أتباعا من كل هذه الأقوام.
وإنّه يجب ألّا نغفل عن أمر مجحف بحقّ العرب، فهم وإن كانوا الحامل الأوّل للديانة الإسلاميّة، فإنّ كثيرا من التعنّت في أمر اللغات الأخرى كان من فعل أبناء الأقوام الأخرى بدوافع دينية أكثر منها قوميّة، فقد باتت القسمة الضيزى تضع كلّ مثلبة في كيس العرب، وتضع كلّ مأثرة في كيس الإسلام، حتّى بات العرب مشوّهين أمام أنفسهم.
إذا أشرنا إلى مأثرة قديمة نسبها الناس بمن فيهم العرب إلى الإسلام، وإذا أشرنا إلى مثلبة وعيب قديم أشار الناس إلى العرب بوصفهم غزاة وناهبين. أفيعقل هذا!
اليوم يفرح العرب لفرح المغرب بدوافع طبيعية جدًّا، فنرى وهّابيًّا متطرّفًا أرعن يستغلّ صورة لاعب يرقص فرحا بفوز فريقه مع أمّه المضحّية، ليعِظ ويَعَضّ! فيتلقّف هذا الأمر متطرّف آخر ليتحدّث عن اضطهاد عربيّ وقع عليه. وإنّ الإجحاف الحديث في كلام الوهّابيّ دافعه دين يتشاركه معه الأمازيغيّ، والإجحاف القديم ضدّ لغته دافعه دينيّ أيضا وقد وقع هو في حظر لغته لا العرب (انظر نظام التعليم عند عبد الكريم الخطّابيّ – وهو أمازيغيّ الأصل إسلاميّ عروبيّ قوميّ).
نهاية المطاف أنّنا قوم لدّ في الخصومة يرى الواحد منّها القذى في عين أخيه، ولا يبصر الوتد في عينه، فيعايره بالعور وهو أعور منه، وأنّ كثيرا من الخير الذي بيننا مردّه الإسلام، كما أنّ كثيرا من الشرّ الذي بيننا مردّه التطرّف في الإسلام، فلو انتبهنا على ما ينفعنا، لرأينا لنا في الإسلام لحظةً مشرقة بين الأمم، ولحظات مجحفةً بيننا طغى فيها المتغلّب أيًّا كانت إثنيّته على المستضعف أيًّا كانت إثنيّته، وكان بين وسائل طغيانه استخدام الدين.
تلك أقوام خلت، ونحن الآن لنا زمننا الذي لا يعد بمستقبل مقبول دون أن تكون هذه البلاد التي فيها أعراب وعرب وأعاجم وعجم متّصلة الوجود الجغرافيّ، مع نفاذيّة سياسيّة لمصلحتنا جميعا (وقل ما تشاء هنا: اتّحاد عربيّ، ولايات عربيّة متّحدة، دولة قوميّة عربيّة، دولة ليبية عظمى – حيث ليبيا هو الاسم القديم للشمال الإفريقيّ، دولة أفروسية – آفروآسيوية) فلا مشاحّة في الاصطلاح، وإنّما قبلنا بالتسمية العربيّة لأنّ العرب أوسع امتدادا في المكان والزمان في حكمها، لا عصبيّة لإثنية على أخرى.
ولنا أن نلاحظ هنا أنّ العرب قديما كانوا وعاءً لغيرهم لأنّ دينهم وقوميّتهم كانا قابلين للتوسّع، فأكبر دواوين شعرنا لابن الروميّ، وأوسع محدّثينا شهرة ألبانيّ، وفي أوّل القوميّين العرب سريان وأقباط وأمازيغ، فليفهم اللبيب من هذه الإشارة أنّ التعنّت سواء لإثنيّته أو لدينه ليس في مصلحته. وإذا كانت الآلة البخارية والثورة الصناعيّة قد وحّدتا ألمانيا، وإذا كان الاقتصاد الحديث قد وحّد أوروبا، فأولى أن توحّدنا الثورة التقنية.
قل خيرا أو اصمت.