الفالص الفاحش بين التقليديين والتغريبيين

ماذا لو طبّقنا فكرة “تصميم تجربة المستخدم” على اللغة في ذاتها! ألن نبدأ بتحليل تجربة الناطق بالعربيّة، وفهم كيف يقول، ولماذا يقول ما يقول، ولماذا يمتنع عن قول ما لا يقوله؟ أليس هذا أجدى من القعود على دروب اللغة متصيّدين “أخطاء” الناس، قائلين: قل ولا تقل! ثمّ متى نجح أسلوب “قل ولا تقل” حتّى نعمّمه ونعوّمه؟ كلّ من كان له حظّ من إتقان العربيّة يعلم أنّ تعلّمه لها لم يكن من هذا الباب، ولكن من القراءة والتدارس والنقد.

اللغة العربيّة من أوائل اللغات التي درست في التاريخ البشريّ، وقد بدأت دراستها مبكّرًا في تاريخنا العربيّ، إذ إنّه بين أقدم شاهد لغويّ معتمد وبين أقدم دارس للغة ما لا يزيد عن ربع عمر اللغة _وأظنّه أقلّ من ذلك_ حتّى اليوم. لكنّ دراسة اللغة المبكّرة كغيرها من الدراسات كانت محكومة بذهنيّة أهل الأزمنة الذين درسوها، ثمّ كثيرا ما حكمت بعد ذلك بذهنيّة التقليد، واتّباع ما جاء به الأوائل.

لم يكن مبتدأ كلامي أكثر من توضيح لموضوع المقال يعوّض الغموض الوارد في عنوانه، فالعنوان يتناول جزئية صغيرة من الفكرة، وهي تطالعنا كثيرًا عندما يهاجم الإسلامويّ أبناء الديانات الأخرى من العرب، أو أبناء المذاهب الأخرى من المسلمين، فيغدو زعم الغربيّين بأنّنا أمّة متطرّفة نبوءة ذاتيّة التحقيق، تعمل في تحقيقها مقولات الإسلامويين عمل الأنزيمات المسرّعة للتفاعل. هي رقصة فالص إذًا، تتسم بالفحش بين طرفين، لكنّها تؤثّر فينا نحن العرب الاعتياديّون.

أمّا التغريبيّون فهم من تابع مقولات الغرب عنّا متابعة المقلّد لا المتعلّم، وهؤلاء بلغت فيهم جرأتهم أن يقولوا: اللغة المصريّة، واللغة الجزائريّة. لا يقصدون بهذا ما قصده القدماء بكون اللغة لهجة، لكنّهم يقصدون أنّ المصريّة اليوم لسان مستقلّ عن العربيّة، وكذلك لهجة كلّ قوم تصبح لسانا مستقلًّا بذاته. وهدف هذا واضح، إذ لا بدّ من تقسيم الوطن العربيّ وإضعاف أقسامه، ليكون لأوروبا اليد الطولى في حوض المتوسّط والعالم.

للرقصة طرف آخر، وهم التقليديّون الذين يخطّئون كلّ متحدّث بالعربيّة، حتّى باتت الكتابة بالعربية سيرا في حقل ألغام، فهذه “إذًا” ستنفجر وتكون “إذن”، وهذه “أثناء” سينفجر تحتها حرف الجرّ “في”، وهكذا إلى أن باتت العامّة تفضّل الكتابة بالعاميّة، وصارت العربيّة الفصيحة مهدّدة بفقد اتّصال وجودها للمرّة الثانية بعد عصر الاحتلال التركيّ.

الفكرة بسيطة جدًّا، فلو سألنا التقليديّ: ما اللغة التي يتحدّثها الناس إذ تصحّح لهم؟ لقال لك: عربيّة معيبة. ولو سألنا التغريبيّ السؤال ذاته لقال: الأردنيّة، أو الحجازيّة، أو المصريّة… إلخ. بينما تأتي شركة جوجل أو سامسونغ أو صخر، فتصنع برمجيّة عربيّة للسوق العربيّة كلّها، وتطلق خوارزميّة تعلّم الآلة في حزمة بيانات ضخمة لتخرج لك ببرنامج تدقيق، وبمحرّر نصوص، وبمتعرّف على خطّ اليد… إلخ. أي إنّ العربيّة حيّة مستخدمة.

هنا تظهر معضلة، فالآراء في العربيّة كثيرة، نحن نتحدّث عن لغة درسها الشرق والغرب، والمحدثون والسابقون، وخرج كلّ برأي مختلف أو موافق لرأي غيره، والأدوات الحديثة في دراسة اللغة غير الأدوات القديمة.

وكما حرّم الإسلامويّون لبس البنطال، ثمّ لبسته العامّة حتّى وصل الأمر إلى إمام الحرم المكّي، يحرّم اللغويّون التقليديّون أمورًا، ثمّ تمرّ وتشيع ويكون لها وجه تبرير أصوليّ أيضًا.

لكنّ التقليديّين لديهم ما يحصّنهم، وهي فكرة “عصر الاحتجاج” التي دقّت مسمارًا معوجًّا في نعش لحاق الدراسة اللغوية بالممارسة، وهي فكرة تحتاج توضيحًا.

عصر الاحتجاج في اللغة قصّة طريفة وطويلة، نبدأ بتوضيح أساسها الفكريّ واللغويّ والتاريخيّ في أخصر وأقصر الطرق:

  • ندر من علماء العربيّة الاستشهاد بأقوال معاصريهم من الشعراء، وذلك له مبرّر واضح: أنا أريد أن أنظّر وأقعّد، فلا بدّ لي من كلام مات أهله، فلو أتيت بشواهد معاصرة فإنّني أتعامل مع بيئة لغوية تتفاعل مع دراستي وهي تؤثّر فيها وتتأثّر.
  • بدأ المولّدون الذين لم تكن العربيّة لغة آبائهم وأجدادهم، ولم يتعلّموها أطفالا بقول الشعر، واستحداث الأساليب، فرأى بعض العلماء أنّ هذا من فساد اللسان لا من تطوّره الطبيعيّ.
  • يعتقد بعض القدماء وبعض المتخلّفين من المعاصرين أنّ اللغة العربيّة هي لغة أزلية خلقها الله ليست من إنتاج المجتمع العربيّ. وهذه فكرة توقيفية اللغة.
  • يعتمد بعض المتخلّفين من القدماء والمعاصرين على فكرة وردت في حديث يقول: خير القرون قرني ثم الذي يليه ثمّ الذي يليه وليس بعد ذلك شيء. وأنا أرويه من ذاكرتي وضعًا من شأنه. مفسّرين كلمة قرن بمعنى 100 عام، مع أنّها لم تكن تعني بالضرورة هذا، ولم تكن تعني الزمن بالضرورة أيضًا. وهؤلاء قصروا الاحتجاج على 300 للهجرة.
  • ثمّة خلاف على التحديد الزمنيّ للاحتجاج، وخلاف على الموادّ المحتجّ بها، فمنهم من أخرج الحديث الشريف من دائرة الاحتجاج أيضًا.
  • غضب آخرون للحديث واحتجّوا بأحاديث هي في ذاتها تناصّ مع كلام عربيّ سبق الرسول مثل (مات حتف أنفه) وسوى ذلك. وهذه نكتة مضحكة لو أنعمتم النظر.
  • أخطاء ذلك الزمن “عصر الاحتجاج” غدت مسكوكات لا يجوز التلاعب فيها.
  • ما لم يوافق هوى العالم، أو لم يكن مطّردًا من كلام الشعراء عدّ ببساطة “ضرورة شعريّة”.

ومن أطرف الأمور أنّ أحد العلماء الكبار جدًّا في اللغة احتجّ ببيت دون أن يذكر قائله، والشاعر الذي قال البيت كان قد هجاه سابقًا لأنه لا يحتجّ بشعره. محاولة ذكيّة لتجنّب الشتيمة والمحافظة على الكرامة في آن معًا.

وللعلم، فإنّ الدراسات القديمة للغة لم تأخذ فكرة المستوى اللغويّ في نظرتها إلى اللغة، فمنذ كانت اللغة، وكلام الشاعر غير كلام المتبضّع والبائع. أنا لا أقول في شعري كلمة “أثناء” على أنها ظرف زمان، ولكنّني أكتبها في النثر بطبيعة الحال.

قرأت قبل مدّة كتابا للأستاذ الدكتور إلياس عطا الله يذكر فيه تعبير “ناهيك عن” ولا يجيزه، ثمّ يحلّله ويوضّح العيب فيه، وبعد صفحات في موضوع آخر يستخدم التعبير ذاته بالمعنى الذي رفضه، لماذا يحدث هذا؟ لأنّ اللغة منتج جماعيّ رغم أنفي وأنف كلّ متنطّع.

لنعد إلى تجربة المستخدم، وتآمر التقليديّ والتغريبيّ على المواطن العربيّ العاديّ من أمثالنا. يأتي العربيّ بجملة أو بفقرة فيجد كلامه مفارقا لما قعّده المقعّدون، مع أنّه يوافق اللغة التي يقرأ فيها ويكتب منذ أزمان، فيصبح واجبًا عليه أن يدرس ويقلّد حتّى يفقد أيّ إبداع لكي يكتب بلغته، أو يهرب إلى الإنجليزية التي يستطيع أن يتجنّب أخطاءها بمساعدة الحاسوب، وما يقع فيه من أخطاء فهي عاميّة مقبولة في المستوى الذي يتحدّث فيه. هو لا يكتب نقدًا لشكسبير في النهاية!

أمّا تعلّم الإنجليزية فهو يسير في الأفلام والأغاني والمناظرات السياسية والبرامج، لكنّ تعلّم العربيّة يجب أن يتصاحب مع لاميّة الشنفرى أو سواها من الشعر الذي لا يفهم عربيّ اليوم كثيرا من مفرداته، فما النتيجة؟ يبتدع معلّمو العربيّة طريقة قل ولا تقل، دون شروحات على تصويبهم هذا. فما النتيجة؟ النتيجة يا مولاي أنّ كثيرا من الناس اليوم تكتب: ذهبت كي أصلّ. يقصدون أصلّي لكنّهم رأوا لافتة تقول: قل صلّ على النبي ولا تقل صلّي على النبي. فظنّوا الأمر مطّردًا لأنّه لم يتبع بتوضيح.

هذه الطريقة سمجة ممجوجة، لا تعلّم أحدًا، لكنّها تسعد المتحذلقين كثيرا.