التبعيّة الطاردة للفنّ والرقيّ

كنت سابقًا تطرّقت في مقال (أرجوك ليس مقالًا آخر عن الشعر) إلى صعوبة الشرط الفنّي وكيف أنّها شرط حقيقيّ لا يمكن “التمرّد عليه”، والآن أجد أنّه يحسن ضرب مثال على هذا الشيء بعيدا عن الشعر وفنّ التفعيلة والنثائر (قصائد النثر ومفردها نثيرة)، وهو أمر فنّيّ له دلالات مجتمعيّة في غاية الأهمّيّة.

بما أنّ مهارة الكلام، ومهارة الخيال، وحضور البديهة، وإدراك الوزن، وحسن التصوير، وسعة المفردات، وإدراك الإيقاع، وحسن الصوت، والسجع وغيره من المحسّنات البديعيّة، كلّها تقع تحت بند المهارات المرغوبة، فإنّه من الطبيعيّ أن يجري التنافس فيها بين من يمارسون الفنون التي تلزمها هذه المهارات، ولا أفضل من استعراض هذه المهارات من مجال التنافس الارتجاليّ في مباراة تجمع أكثر من “شاعر” أو “زجّال” أو “رابر”.

الراب كما تعلمون له نشأته البعيدة عنّا، وهو وإن كان نشأ في بلاده كنقيض للثقافة التي تفضّل البيض الغربيّين، وفيه ردّة فعل على العنصريّة، وتعبير شعبيّ عن الأحياء الفقيرة للسود والملوّنين، لكنّني أزعم أنّه عندما نقل إلينا، جاءنا بوصفه أداة تفضّل الثقافة الغربيّة على ثقافتنا.

سنعاين هنا أمثلة من مبارزات الشعراء الارتجاليّة، ومن ضمنها الراب، ثمّ أضع بعض الملاحظات أمامكم لتنظروا أين يكمن المرض:

1

الزماط: وهو فنّ شعريّ شعبيّ عراقيّ يتقابل فيه الشعراء لدى حفلات العرس.

المثال لمهاويل (المفرد مهوال وهو شاعر الزماط في الأعراس والنعي في مراسم العزاء) ليسوا هم الأشهر في بيئتهم.

أمّا الموضوع فهو الفروسيّة.

2

الزجل: فنّ شعريّ أدنى من الشعر الشعبيّ في تقنيّاته، منتشر في لبنان وسوريّا وشمال فلسطين المحتلّة إلى الإسكندرون السليب.

المثال ليس على بحر الزجل وإنّما على وزن القرّادة، وثمّة أوزان كثيرة. والشعراء ليسوا أيضًا أكبر الأسماء في تاريخ الزجل.

3

المحاورة والردّيّة

من بلاد الحجاز والشعراء فيها ليسوا هم الأشهر في الساحة الشعريّة أيضًا.

4

الحوار

وهذا من نوع المربّع بين زجّالين فلسطينيّين من الأبرز في مجالهم.

5

الراب باتل
الرابرز الموجدان هنا من الأبرز في “سين” الراب، وهما الدرويش والكلش.
تحذير: الفيديو فوق 18.

الملاحظات:

  • في جميع الأشكال الشعبية للمواجهة يلتزم الشعراء بالوزن الشعري وأحيانا بالأداء الغنائي.
  • في الراب “فري ستايل” لا وجود للوزن على الإطلاق.
  • تتنوّع القوافي وتتعقّد أيضًا في المواجهات الشعبيّة وتأتي أحيانا على ثلاثة أحرف وأكثر.
  • في الراب القافية هي ياء نون الجمع، أو نوع من الضمائر، وأحيانًا تفلت قافية مقبولة، لكنّ القوافي ساقطة في أغلبها.
  • ثمّة مشاركة حقيقيّة من الجمهور في أنواع المواجهات الشعبيّة: إمّا صفق إيقاعي ورقص، أو غناء، أو هوسة (في آخر فيديو الزماط)، أو سوى ذلك.
  • في الراب الجمهور فقط للصراخ والضحك.
  • الصور الشعريّة المحكمة موجودة في المواجهات الشعبيّة وتقلّ أو تكثر حسب الفنّ.
  • في الراب ثمّة أحيانا صور مشهديّة (أكرّر أحيانا قليلة) وهي شيء يشبه القصّة ولا يلتقطه السامع فورًا خلال الحفل.
  • الهجاء والفخر غرضان رئيسان في المواجهات الشعريّة الشعبيّة، وهم يلتزمون بموضوع آخر غير فكرة الهجاء فيأتون بكلام في الرجولة أو الشعر أو الفروسيّة أو سوى ذلك.
  • في الراب لا موضوع سوى النيل من الخصم بأي شكل.
  • في المواجهات الشعريّة الشعبيّة على تنوّعها تجد السخرية والمناكفة تأتي في مجال واسع وفيها تندّر على أمور كثيرة لدى الخصم.
  • في الراب لا وجود لشيء سوى الذكوريّة السامّة البشعة التي قال فيها منيف المنقرة في المثال رقم 3: مرجلتكم يا تريكي ما غير الخصوتين. وهذا من أشنع الهجاء.

الآن وبعد ما عرفت، دعنا نشاركك أمرًا طريفًا من إنتاج حساب في التيكتوك اسمه “إذا غنّى الجبل” بعنوان ” الزجل الراب العربي المظلوم”

وهاك مثال على الراب الذي أخذ من التقاليد العربيّة شيئا فالتزم بالوزن والصورة الشعريّة وهو من عمل الممثّل أحمد مكّي مع قدرة هائلة على سرد الحكاية أيضًا:

هكذا نكون انتهينا من الأمثلة، وأعود للتأكيد على أنّ هذه المقالة مثال فقط على أنّ صعوبة الشرط الفنّي تجعل المنتج الفنّيّ أقرب للأرواح حتّى روح صانعه. وثمّة رسالة خفيّة أخرى في المقال تركتها في العنوان.

أخيرا، هاكم مسلسلا ساخرا من الإيغو المنتفخ لدى “مشهد الراب” وهو “نسر السين”.

تحذير: لا تشغّل الفيديو إن كنت تحت 18 سن