اللحظانيّة | الخطر الأكبر على البشريّة

ربّما لم تكن هذه الكلمة موجودة قبل أن أكتبها الآن، وهي الآن فيما أظنّ ترمز إلى أمر أراه الخطر الأكبر على البشريّة. بعد قراءة بضع أسطر، قد تقول في نفسك: حسنٌ، ولكنّك تطلق اسمًا جديدًا على شيء قديم. إن قلت ذلك، فتابع القراءة لأنّ ما أعنيه مختلف عن الهوى، أو الراهنيّة، أو الارتجال، أو القرارات غير المدروسة، مع أنّه يتقاطع معها جميعًا.

أراقب سلوك الناس المعرفيّ، فيما يخصّ السياسة والتفاعل مع الشؤون الراهنة، ويأتي ذلك في حزمة واحدة مع اهتمامي بالأكاديميا والبيداغوجيا ممارسًا، وناقدًا، ومراقبًا، ومتعلّما. وأرى تسرّعًا كبيرًا في إعلان المواقف، وخفّةً لافتةً في حركة الناس نحو أوّل اصطفاف يرونه مبرّرًا، وإن كان ثمّة تفاضل في جودة التبرير. التبرير قد يكون مبنيًّا على الهوى، أو الغضب من شأن ما أو موقف صدر عن أحد الأطراف، أو قد يكون مبنيًّا على أوّل دعاية سياسيّة “بروباغندا” تعرّض لها الشخص، أو على موقف دوغمائيّ تتبنّاه الجماعة التي يعرّف بها الشخص نفسه، أو أيّ شيء آخر.

هذا القفز إلى سؤال: ما موقفي من الشأن الفلانيّ؟ لهو دليل على تورّم غير حميد في الإيغو، وغبن في تقدير الذات؛ إذ يعتقد الشخص أنّ موقفه أهمّ من حاجته إلى المعرفة، أو لأكون أكثر وقاحة، أقول: إذ يعتقد الشخص أو الجهة أنّ موقفهما مهمّ أصلًا. نحن نعلم من الأصل، أنّ لكلّ شأن لاعبيه الأساسيّين، الذين يحدّدون مسيرته، وثمّة لاعبون ثانويّون قد يغيّرون توجّه اللاعبين الأساسيّين، أو يمنحونهم ورقة ضغط، أو يقوّون موقفهم، بيد أنّ السلوك الذي أشير إليه الآن، قد يكون صادرًا من جهات لا وزنَ يذكر لموقفها من هذا الشيء على الإطلاق.

سمات الموقف اللحظانيّ

  1. غالبًا يظنّ صاحبه أنّه موقف غير ذي تبعات، ولا عواقب له. فلو كان ثمّة عواقب يخافها، أو تبعات يرجوها، لكان عرضةً للتفكير أكثر.
  2. غالبًا ما يصدر دون معلومات كافية، وعند عدم توفّر معلومات كثيرة عن أمر ما، يصعب تحديد كون المعلومات كافية أم لا. والحديث في أمر كهذا، يجب ألّا يجاوز التساؤلات والأسئلة، والأنكى أنّها قد تكون مبنيّة على معلومات مغلوطة كلّيًّا أو إعلام مزيّف.
  3. غالبًا ما يكون مبنيّا على العاطفة أكثر من العقل. والعاطفة قد تكون قوميّة، أو دينيّة، أو لأيّ انتماء كان.
  4. يكون ناتجًا عن الـ”فومو” أو الخوف من أن يفوتنا شيء، فنحن نريد أن نكون على الصفحة نفسها مع مجتمعاتنا.
  5. عادة يكون الموقف بلا تكلفة، فلا يبذل من أجله الجهد الكافي لتحصيل المعرفة المتخصّصة عنه. هو موقف كسول يبنى على آخر ما قرأت، أو تفاعل جماعة موالية أو مضادّة لك مع الحدث.
  6. تكون الجوّ حول هذه المواقف عادةً عالي الاستقطاب. وعلوّ الاستقطاب قد يكون بكثرة المستقطَبين، أو بحدّتهم؛ ثمّة جهتان رئيستان _أو أكثر أحيانًا_ لهما مواقف واضحة، وصوتهما مرتفع جدًّا.
  7. يتّسم عادة أصحاب هذه المواقف بما أسمّيه الخفّة المعرفيّة؛ فهم لا يمتلكون خلفيّة معرفيّة محترمة حول هذا الأمر، ومن لا يمتلك هذا يكون سريع التأثّر بآخر ما يقرأ، وتكثر عندهم تعبيرات من مثل “أجمل ما قرأت” وسائر صيغ التفضيل المطلق. وهذا قد يأتي من متخصّص معتبر إذا تحدّث خارج تخصّصه.
  8. من الملاحظ في المواقف اللحظانيّة أنّها يعبّر عنها بصورة طريفة، ويكون هذا بالاتّكاء على مفارقة هنا، أو نكتة هناك، أو توظيف رمز معروف على الخاطر العامّ.
  9. تكثر المواقف اللحظانيّة مع سرعة التواصل وسطحيّته التي تفرضها وسائل التواصل الاجتماعيّ بتحديد عدد حروف المنشور، أو في تفضيلات سلوك المستخدم، أو ثقافة الميم (الصور الهزليّة)، والعلاقة بينها تبادليّة، فهي ناتجة عن حجرات الصدى، وتعيش في حجرات الصدى.

لنفكّر هنا في وزن بعض الأمور المركزيّة المؤثّرة جدًّا مع طغيان اللحظانيّة شعبيًّا، فما وزن “القيادة الملهَمة” إذا كانت تعلم أنّها ستحاكم على أساس لحظانيّ من الناس؟ أليست ستميل إلى استمالة جمهورها بقرارات حمقاء؟ ماذا عن السلطات الناتجة عن تصويت “ديموقراطيّ”؟ هل هي في وضع أفضل؟ ألن تؤثّر الجماهير في مجمل قراراتها؟

أخيرًا، لماذا أعطي هذه الظاهرة اسمًا مستقلًّا؟ أليس الأفضل تسميتها الشعبويّة؟ قد يكون اسم الشعبويّة معبّرًا، لكن الشعبويّة ظاهرة سلوكيّة تتكئ على ظاهرة معرفيّة، والظاهرة التي أقصدها هنا هي الظاهرة المعرفيّة، أي إنّ اللحظانيّة هي السلوك المعرفيّ الذي تبنى عليه ظاهرة الشعبويّة السلوكيّة، وبينهما تغذية متبادلة بكلّ تأكيد، فليس من المجدي فصل الإدراكيّ المعرفيّ عن السلوكيّ هنا.