فلسطين ما بين السطور

لدى تحليل أي مقولة، لا بدّ من التعامل معها بوصفها خطابًا، وإلّا فإنّ التحليل سيكون أقرب للانطباعيّة أو الأداتيّة، أي إنّ المحللّ سيبدي انطباعه الخاص عمّا فهمه من الكلام، أو سيطلعنا على المقولة من منظور الأداة التي تهمّه مثل النحو أو التشبيهات أو سواها. أمّا عند التعامل مع المقولات بوصفها خطابًا فهذا يعني النظر في الشغل الذي تحدثه هذه المقولة في ذهن المتلقّي. عند التعامل مع “خطاب” فإنّه يجب علينا الانتباه إلى مضمراته، أي الأمور المضمرة فيه، ومنها: الضمنيّات، أي ما يفهم ضمنا من الكلام، والافتراضات، بكلمات أخرى هو: ما لم يكن الكلام ليقال لولا وجوده. سأتناول هنا بعض التوجّهات التي شكّلت خطابات حول فلسطين، مع النظر في مضمراتها.

“فلسطين قضية الفلسطينيّين”

التوجّه الفلسطينيّ الذي بدأ مبكّرًا وحمل فكرة “يا وحدنا”، وما جاء على شاكلته من تعريف الصراع على أنه ما بين العالم من جهة وبين الفلسطينيّ من جهة أخرى، كخيانة الجميع لقضيتهم، يحمل في طيّاته بذورًا سرطانية. لعلّه ليس مفاجئا أنّ درويش الذي حمل هذا الخطاب دعا إلى التطبيع الثقافيّ مبكّرا، ومارسه، لكن المفاجأة حقًّا أن كثيرا من رسومات ناجي العلي كانت توظّف في خدمة هذا الخطاب مع أنه يحمل نقيضه تماما.

هذا الخط إذا مددناه على طوله فإنّه يؤدّي إلى مكان واحد، ولا يمكن أن يؤدّي إلّا إليه: أوسلو. أي العمل على تحقيق تعايش مع المحتلّ، لأنّ تحقيق وجود دائم إلى جانبه هو أفضل ما يمكن تحصيله في هذه الحال. أي العمل على مجرّد البقاء. .لذلك، كان عليك أن تفكّر مرّتين قبل نشر أي شيء يركّز على فلسطينيّة القضيّة على حساب عروبتها، لأنه يدفع باتجاه معاكس لما تريده.

“أخطر علينا من إسرائيل”

عندما لا يرى حاكم عربيّ حلف شمال الأطلنطيّ “الناتو” عدوّا، أو لا يتبنّى مشروعا يعاديه الأطلنطيّون، فإنّ تصالحه هذا مع سيادة الأطلنطيين على العالم ينتج عنه بالضرورة تصالحٌ مع وجود الأعداء في الأرض المحتلة. كذلك، إذا رأى السياسي العربي اللوبي الصهيونيّ الداعم للأعداء مسيطرا على الولايات المتحدة الأمريكية بالكامل، أو إذا تناقض مع المحتلّ دون التناقض مع الأطلنطيين كلهم، فإن هذا سيجرّه حتما إلى قبول الاحتلال. سأوضّح لماذا.

من باب جغرافي-سياسي فإن الاحتلال ليس خطرا استراتيجيا إذا كان الكيان المحتل ليس قاعدة هيمنة متقدّمة لعدوّ أطلنطي. يعني إذا كنا نواجه “إسرائيل” وحدها، فلن تكون بخطورة حسابات إقليمية أخرى، وستكون حسابات مثل صراع إقليمي بين إيران والسعودية، أو بين مصر وتركيا، أهمّ بآلاف المرّات من عداء الكيان.

من وجهة نظر عسكرية بعيدة عن النظريات السياسية والفكرية، وهي وجهة النظر الحاكمة غالبا، فإن من يفكر بالطريقة الموصوفة أعلاه، سيرى “أن الكيان هشّ عسكريا فهو شريط ساحلي لا يمكنه الصمود، بينما ملاطفته أمر مهم للرضا الأمريكي المؤثّر جدا في الحسابات الجيوسياسية المهمة فعلا”. ولا ننسى أثناء التفكير في هذا أن تركيا جزء من الناتو.

انقلاب جغرافيّة التوراة

تظلّ نظريّة “انقلاب الجغرافيا التوراتية” تبرز كلّ مدّة على لسان أحد متبنّيها من بعد صاحب النسخة الأولى منها الدكتور كمال الصليبي، والذي خلفه فيها بمنهج أجود منه الأستاذ الدكتور أحمد الداود، ثم الدكتور فاضل الربيعي الذي أرى منهجه الأضعف بين الثلاثة.

يمكن اختزال الفكرة بأنّ الجغرافيا الواردة في التوراة هي جغرافيّة جنوب الجزيرة العربيّة، لا جغرافيّة فلسطين. وفي هذه النظريّة مضمرات كثيرة، سأقفز عن معظمها وأمرّ فقط على ما يتعلّق بفلسطين داخلها. ومن هذه الافتراضات:.

– أنّ التوراة وثيقة تاريخيّة تعود بالفعل إلى عصر موسى. وهذا بعيد جدًّا عن وجهة نظر علم التاريخ المعتمد على اللقى الأثرية.

– أنّ علينا العودة آلاف السنين إلى الوراء لإثبات ملكيّة أرضنا. وهذا مطلب تعجيزيّ، لأنّ الماضي ليس هو التاريخ، ولا نستطيع الرجوع إلى الماضي فعلا.

– أنّ اليهـ.ودية تُعامَل بوصفها قوميّة لا ديانة. وهذا خطأ بائن.

– أنّ الأعداء اليوم هم ورثة هذه الأقوام القديمة. هذا ينفيه كثير منهم صراحة، لكنّ مجرّد فتح النقاش يضمر هذه الفكرة، لا سيّما عند من يبحث في العناوين والملخّصات عن ثقافة.

– أنّ من حقّ كلّ “أمّة” أن تعود إلى أرض سكنتها قبل آلاف السنين.

هذه المضمرات خطيرة جدًّا سخيفة جدًّا جدًّا في آنٍ معًا.