“مؤامرة كورونا” | الطروح الشعبية والشعبوية وأسباب ضلالها

Artboard 1.jpg

انتشر شريط مقابلة لشخص وصف بكونه “مفكّرا بريطانيا” اسمه (ديفيد آيك)، يسرد فيه آيك تفاصيل ما يسميه “خدعة كورونا”. في الأوضاع العادية، كنت سأؤجل الرد على هكذا طرح حتى تنتهي الأزمة، لأكتب مذكرا الناس بعيوب التفكير والتواصل التي تؤدي لانتشار مثل هكذا طرح، لكنّ المسألة هنا ليست توعية فكرية تؤدّى للجاهزين لاستقبالها، بل هي ضرورة حياتية، لأن عدم التصديق، وبالآتي عدم الالتزام بالتعليمات الصحية فيه خطر على حيوات الناس.

بالتأكيد آيك ليس الوحيد الذي تحدث عن المخططات الخفية المريبة التي تكمن وراء هستيريا الكورونا، مثلا ثمة د. فيرنون كولمان من الذين يصورون أشرطة يتحدثون فيها مع الناس، ومن الكتاب ثمة مجموعة ليست بالهينة تقوم بالترويج للفكرة ذاتها، وقد اطلعت على مقالات لا أذكر أسماء كتابها تطرح الأمر وكأنه مؤامرة أمريكية، أو مؤامرة صينية لدوافع اقتصادية. غير أن بعض المرّ أخف من بعضه، فالذين يتحدثون عن أصل الفيروس، وكونه مصنّعا لا ينكرون وجوده، أو خطره.

سأقصر الحديث عن ديفد آيك معرّجا على طروحات غيره تعريجا فقط، وذلك لأسباب تتعلق بسياق اطلاعي عليه، ولأنه المحفّز الأكبر وراء كتابتي لهذه السطور.

سياق اطلاعي على الشريط

رأيت عددا من الأصدقاء الحقيقيين والافتراضيين إلى جانب الأقارب يشاركون شريط آيك في نبرة استعلائية، قائلين: “من يحب أن يفهم، فليشاهد.” وبقيت أشاهد طرفا من الشريط ثم أغلقه، حتى رأيت ناشطين يساريين أحسبهم عقلاء يشاركون الشريط، فقلت في نفسي: هذه فرصة لن تتكرّر كثيرا للحديث معهم حول طريقتهم في التفكير. وعليه قررت الكتابة في هذا الشأن.

سياق المقابلة فيما يتعلق بالقناة

القناة التي صوّرت المقابلة ونشرتها هي “لندن ريال”، وهذه القناة مليئة عن آخرها بمقابلات شعبوية مضحكة من صنف التنمية البشرية والروحانيات الحديثة. المقدّم (براين روز) هو ذاته مدير الموقع ومؤسسه الذي تعود له هذه القناة اليوتيوبية، وهو مقدّم برامج سابق في التلفاز، ومنتج أفلام وثائقية ركيكة من الصنف ذاته. لم أستطع وأنا أنظر إليه إلا أن أتذكر النسخة الأمريكية منه (أليكس جونز)، إذ إن روز وجونز يتقاطعان في أكثر من أمر، هما على أقصى اليمين لدرجة أنّك تظنّهم على أقصى اليسار، وهما محسوبان في المعارضة، وهما يروّجان لنظريات المؤامرة ولو بنسخها الأقل حدّة مما طرحه ديفد آيك.

سياق المقابلة فيما يتعلق بالمتحدث

ديفد آيك ليس “مفكّرا”، وهو ليس أكثر من مؤدٍّ مسرحيّ أو حكواتيّ، طالما صعد المنصات وهو يتحدث عن نبوءاته وكشوفه العجيبة. بدأ آيك حياته كنجم رياضي، ثم ما إن انتهت حياته الرياضية، انتقل ليصبح مقدّما إعلاميا، وشطح فيما بعد ليدّعي أنه ابن الله، ثمّ تنبّأ بنهاية العالم التي لم تحدث _أو لعلها حدثت_، ثم غاب مدّة ليعود ككاتب لروايات الفانتازيا الوثائقية، أي إنه لا يعترف بكونه روائيا، ويعد نفسه كاشفا للحقيقة بالوثائق والأدلة. هاكم بعض طروحاته:

+ وصول الإنسان للقمر كذبة.

+ ثمة أطباق طائرة تخفيها عنا الحكومات.

+ ثمة جنس من الزواحف الفضائية التي تشتهي الأطفال، تناسل مع البشر، وأنجب أبناء الزواحف الذين هم اليوم النخبة السياسية.

+ القمر ليس سوى قناعا لمحطة مراقبة للبشر زرعها الفضائيون قبل آلاف السنين.

هل أكمل؟ أنا جاد … هل أحتاج أن أكمل!

حسنٌ، من اطلع على كتابات الشخصية الغريبة (علاء الحلبي) سيعرف بقية طروحات آيك، دون أن أدخل في تفاصيلها. للحفاظ على جدية المقال سأنتقل إلى خطاب آيك ذاته.

بعد أن انتهينا من السياق، نستطيع أن ننتقل إلى الطرح الذي تفضّل به آيك، وشاركه خلق كثير على الإنترنت.

مختصر طرح آيك

  • ثمة طائفة سرية تتحكم بالعالم، وتسير به إلى حالة “مجتمع ألعاب الجوع”. (ألعاب الجوع فيلم خيال علمي مشهور)
  • هذه الطائفة هي الـ 1% الذين يتحكمون بالثروة والسياسة، والساسة والمدراء والعلماء والشرطة والجيش يعملون في خدمتهم للسيطرة على الناس.
  • العالم المستقبلي الذي تسوقنا هذه الطائفة باتجاهه هو عالم العملة الموحّدة، وهو عالم الذكاء الاصطناعيّ الذي يبرمج البشر.
  • من استراتيجيات المتآمرين لنقبل بمخططاتهم استراتيجية: “مشكلة مصطنعة، رد فعل، حل”، واستراتيجية: “مشكلة مكذوبة، رد فعل، حل”.
  • إذا لم نعلم ما هو هدف هذه الطائفة، فإن كل شيء سيبدو عشوائيا، لكن عندما نعلم الهدف النهائي، فإننا سنبصر كيف يترتب كل شيء بدا عشوائيا لصبح خطوات في مخطط واضح.
  • فيروس كورونا يقتل الضعفاء والمسنين فقط. والمسنون ضعفاء بسبب السياسات.
  • فيروس كورونا تمّ تصنيعه لهذه الغاية.
  • السلطات دائما كاذبة حتى يثبت عكس ذلك، ونحن لم نحصل على إثبات حول صدقهم في قصة كورونا.
  • إحصائيات كورونا تعتمد على التشخيص من خلال الأعراض فقط، وهذا يجعلها غير دقيقة.
  • الاقصاد العالمي سيتدمّر، وهذا من مخططات الطائفة السرية (مجلس إدارة العالم).
  • سبق له أن تنبأ بكل هذا في كتبه.

مختصر الرد على آيك

(جزء من الردود والتلخيص هو ترجمة لردّ د. تود غرانديه)

طائفة سرية!

يقترح د. غرانديه علينا أن نمسك الآلة الحاسبة، ونحسب 1% من تعداد سكان العالم الحالي 7.53 مليار نسمة، وهو بالمناسبة يساوي: 75.3 مليون إنسان. هل تتخيل أنه يمكن أن يكون ثمة طائفة سرية تعدادها 75 مليون!

كلمة “كلت” لا تطلق على أعداد مثل هذه أصلا، ولا على أقل منها بكثير. الكلمة تستخدم تداوليا في إطار وصف جماعات لا تثق إلا برئيسها، وتتحكم بالعلاقات بين أتباع الطائفة الواحدة، وتحاول التحكم بالإنسان لا إرشاده. وهذه الصفات لا يمكن تطبيقها بعد رقم 1000. حتى لو استعنت بالتقنية، فإلى أي رقم ستصل؟ أعتقد أن الحفاظ على سرية مجموعة من مئة ألف أمر مستحيل، فما بالك فمليون أو 75 مليون!

ستقول في نفسك: هو لم يقصد 1% بالضبط، وقد تحدث عن 1% من الـ 1%. أقول: حتى لو كان، هؤلاء أيضا رقم فلكي على طائفة سرية!

العب بما تغلب به

هذا في الأصل مثل شعبي يقول: “اللي تغلب به، إلعب به”، آيك يستخدم الأدبيات الشائعة بين الشعوب الساخطة ليبني منها سرديته الخرافية. من هنا بالضبط، جاء مصطلح 1%. كذلك، الأمر في فهمه لماهية الذكاء الاصطناعي (ما تزال خيالا علميا حتى هذه اللحظة). فكرة “النظام العالمي” والعملة الموحدة هي لبنة أخرى من لبنات المخيال الشعبي… إلخ.

إذًا، ما يفعله آيك ليس إلا أنه يأخذ ما يشيع لدى الناس من أفكار ومصطلحات ليضيفها لسردية موجودة لديه مسبقا، وهي قصة الزواحف الفضائية، لكنه لا يذكر مصطلح زواحف، بل يستخدم كلمات يتداولها الناس مثل 1%، وطائفة سرية!

مشكلة، رد فعل، حل

طريحة، نقيضة، جميعة | الدياليكتيك الذي نعيشه مع الطبيعة | الاستجابة الطبيعية مع العالم، كلها تقوم على طريقة: مشكلة، رد فعل، حل. هل إعطاء هذه الطريقة الطبيعية اسما يخوّل أي شخص أن يدعي أنه يعرف أكثر منك، وأن يدّعي أن كل المشاكل مصطنعة أو مكذوبة؟ ماذا عن نقص البترول؟ ماذا عن الخطر النووي؟ كل هذه مشاكل مختلقة!

الانحياز الإدراكي

حول فكرته التي تقول بكون الأشياء تبدو عشوائية إلا إذا عرفت الوجهة النهائية، فإنه يمكن صياغتها هكذا:

إذا سيطرت عليك فكرة مسبقة فأنت تستطيع أن تدعمها بفهمك الملتوي للأدلة.

أليس هذا ما نعانيه مع الدواعش والقاعدة والإخوان وبقية المتطرفين؟ يضعون في رأسهم تصورا مسبقا لا دليل عليه، ثم يبحثون عمّا يمكن أن يستخدم لدعم تصوّرهم! وهي مشكلة إدراكية مشهورة، ليست مخططا اتفق عليه هو والدواعش لأنهم أعضاء في طائفة.

من يقتل الفايروس؟

المشكلة أنك تستطيع أن تصنف كل شخص فتك به الفيروس كشخص ضعيف، سواء كان كبيرا في السن أم صغيرا. لكن اعلم أن مضاعفات الإصابة بالفيروس تتنوع حسب المسيرة الطبية في التعامل معه، ولذلك فإننا لا يمكن أن نصدر حكما يقينيا حول درجة محددة من خطورته. لذلك بالضبط، يتعامل الأطباء ودارسو الأوبئة مع إحصاءات.

لابدّ أيضا من ذكر أن المناعة تضعف مع العمر بصورة طبيعية، وليس بسبب الإشعاعات أو غيرها.

الأطباء يضعون مؤشرات كثيرة لخطورة الفيروس، منها مثلا قدرته على الانتشار، قدرته على إحداث عطب نهائي في أجهزة، قدرته على التكيف والتطور وإعادة العدوى موسميا، نسب الوفيات من كل فئة عمرية، نسب الوفيات من كل فئة دم، وهكذا… ستجد صفحات من الدراسات الإحصائية التي قد يثبت فيما بعد أنها أدت إلى طريق مسدود.

ولأن هذه معلومة علمية معقدة، سأبتعد عن التورط في محاولة شرحها، ويجب أن يكون كافيا أن أقول لك:

إن سرعة انتشار الفيروس، وتعدد طيف الأعراض للمصابين فيه، وتأثيره الكبير على بعض الناس من فئات مختلفة، يجعله سببا في تعطّل الخدمات الطبية في بلد ما، وهذه وحدها دون فيروس هي مصيبة.

هل كورونا مصنّع أم تطوّر طبيعيا؟

بصراحة لا أعلم، ولا أرى أنّه من المهم الإجابة عن هذا السؤال الآن. عموما، ثمة إثباتات عديدة على كونه طبيعيا، تستطيع أن تطلع عليها وتحكم بنفسك. وأكثر من ذلك عمومية، كان احتمال انتشار وباء عالمي احتمالا شائعا معروفا تكرر في التاريخ.

كذب السلطات

نعم، ثمة مشكلة ثقة بين السلطات والشعوب، ولهذا أصلا تشيع نظريات المؤامرة بنسخها العديدة. تستطيع للتوسع في هذه الفكرة قراءة مقال سابق: خرافات واقعية.

إحصائيات كورونا صادقة أم كاذبة؟

للدول المختلفة معايير صحية مختلفة، ولذلك فالأرقام _كما توضح المنظمات الطبية “المنخرطة في المؤامرة”_  تعتمد على معايير مختلفة وتحتاج معالجة كثيرة قبل البناء عليها.

السؤال هو: إذا كانوا طائفة ويعرفون أن هذه المعلومة تفضحهم، لماذا لم يخفوها؟ أليسوا طائفة سرية ماهرة في التخفي!

هل سيتدمر الاقتصاد العالمي؟

الاقتصاد العالمي سيتغيّر، أما مسألة الدمار النهائي فهذه بعيدة حتى الآن. كيف؟ وإلى أين نسير؟ هذا فضول يمكن أن يكون وقودك لتعلّم الكثير من العلوم، فلا تسكته لمجرّد أن معتوه الزواحف الذي كان يظن نفسه ابن الله قال لك: سيصلون بنا إلى مجتمع ألعاب الجوع.

هل سبق وتنبأ بذلك؟

نعم، تنبّأ آيك بهذا من قبل، وتبنأ بأمور كثيرة بتأريخات محددة ولم تحدث، وتنبأ بزوال العالم الذي لم يزل، وتنبأ غيره كثيرون بالجائحة وبغيرها، فهل هذا يعني شيئا؟

هو يحاول أن يضفي مصداقية لنفسه بكونه تنبأ وصدق، فإذا كان الأمر كذلك، فعلينا تذكيره بنبوءات أخرى لم تنجح! وللعلم هذا كله لا يعني شيئا.

لماذا ينطلي هذا على عقلاء؟

  1. عدم إتقان طرق البحث العلمي، وطرق البرهنة العلمية، والاتكاء على المنطق الارتجالي.
  2. عدم إتقان أساليب البحث على الشبكة، والأمية الإلكترونية.
  3. الانحياز الإدراكي: يقول ما أحب سماعه، إذًا هو صادق.
  4. الانتهازية في الخطاب: كل ما يمكن أن أكسب به الناس إلى طرحي فهو مشروع.
  5. وعود اليقين الفارغة. لأننا نخاف من كوننا لا نعلم أكثر من الخوف من موتنا.
  6. الشرعية الآتية من الأكثرية: شاركه كثير من الناس، إذًا فهو صحيح.
  7. خوارزميات وسائل التواصل: خوارزميات تكريس الحماقة. تستطيع قراءة مقال (يسألونك عن وسائل التواصل) لتتوسع أكثر في الفكرة ذاتها.
  8. لأن الرواية ممتعة أكثر من الواقع، كلنا قرأنا نظريات المؤامرة واستمتعنا بها بصفتها أدبا يتكئ على الواقع.
  9. لأن الحقيقة أحيانا لا تكون مدهشة.
  10. لأننا نظن أن وجود معلومات صحيحة في طرح متسق مسألة كافية لتصديق الطرح كله.
  11. لأننا أبناء حضارة تعتمد على الغيبيات كثيرا، ولذلك حتى من فارق غيبيات حضارته فهو تربّى طفلا على طريقة غيبية في التفكير.

أقرأ ما كتبت وأضحك من نفسي ومن الوضع الذي يضطرنا لنفي ما يقوله أبو الزواحف!

الآن لنترك آيك جانبا، ماذا بعد؟

ثمة د.فيرنون كولمان الذي يقول: إن هذه الهستيريا وراءها أجندة التخلص من كبار السن، ولجعل المطاعيم إجبارية.

أقول لك: كلام فارغ. لكن ابحث أنت لماذا هذا كلام فارغ.

دقيقة، ثمة من يقول: نحن نهدم اقتصاداتنا بأيدينا، وهم يركنون إلى مناعة القطيع، ويحافظون على اقتصادهم.

أقول لك: تابع الأخبار جيدا، كثير ممن قالوا بمناعة القطيع تراجعوا عنها، وثمة أعداد مرعبة تأتي من الأنظمة ذاتها. لدينا أسباب لتخيّل دوافعهم لاتباع طريقة “مناعة القطيع”، منها هوسهم بالاقتصاد، ولدينا أسباب لفهم ما دفعهم للتراجع عن هذه القرارات، ولدينا أيضا أسباب تدفعنا لألا نصدق طرحك.

هنا لا أقول إن ما تنشره القنوات الرسمية صائب 100%! أنا أقول فقط: الطروحات الأخرى فيها من الشقوق والمزق ما يمنع ارتداءها لصاحب ذوق. وهذا لا يعني تصديق كل شيء، لكنه يعني الالتزام الحالي بتعليمات الأطباء والأمن.