خطاب الرئيس الأسد في تحرير حلب
قراءة في الشكل بوصفه مضمونا
بما أن المضامين هي الفروق كما يقترح دريدا، فإن انتباهنا إلى الفوارق في الشكل يجعلنا على إدراك أكبر للمضمون. نقرأ سريعا شكل خطاب الدكتور بشّار الأسد رئيس الجمهورية العربية السورية غير بعيدين عن مضمونه.
.
1- المكتب
على عكس الخطابات التي كانت توجّه من على منصة، نجد منصّة الرئيس اليوم مكتبه، وفي هذا إشارة لكونه في عمله الرسمي الاعتيادي، أي أنه ليس في بيت أو شرفة، وليس في احتفالية، وليس في عمل ميدانيّ، ولكل شكل من الأشكال السابقة مقترحاته، التي بابتعاده عنها يقول لنا: حالة الطوارئ التي تفرض نزول الرئيس إلى الشارع انتهت، وهو في مكتبه يمارس عمله.
.
2- الجمهور
على عكس الخطابات السابقة، كان الجمهور في هذا الخطاب هو مشاهد الشريط، وقد اعتدنا من قبل على أن نرى الرئيس يتحدّث لآخرين: مجلس الشعب، ضبّاط، جنود، صحفيين. هنا هو يتحدّث للكاميرا مباشرة.
يقول لنا هذا الفارق إننا أمام عصر بلا حواجز، ولا حاجة فيه لجمهور وسيط يدلّنا أين نتفاعل ولا بم ننفعل.
.
3- اللقطة المتصلة
لم تنقطع اللقطة إلا في موضعين أو ثلاثة مواضع، وهذا يشي بنوع من التخفف من الرسمية دون فقدان الرصانة الحاضرة في اللغة والمضمون والأسلوب.
اللقطة المتصلة الطويلة تستخدم سينمائيا لتظهير صدق المشهد وعفويته.
.
4- الإعلام بدل التعليم
لعهد طويل مرّ، سيطرت على خطابات الرئيس الأسد نبرة المعلّم الذي يفصّل للتلاميذ أبعاد المشهد، وقد كانت ضرورية في أحيان كثيرة. وقد اعتدنا على مفردات مثل: ينقسم إلى، أولا، النقطة الثالثة… إلخ.
اليوم بابتعاده عن نبرة المعلم إلى نبرة الإعلاميّ يظهر الخطاب ثقة الرئيس بكون شعبه عالما بالأمور الضرورية التي يبنى عليها الخطاب.
.
5- الرصانة
هذه ليست فرقا، فالرئيس الأسد لم يفارق هدوءه ورصانته طيلة سنين الحرب، إلا أنّها فرق بين الممكنات، أي أنه كان من المتوقع أن تترافق التغييرات السابقة مع شيء من الخفة في الأسلوب، إلا أن ذلك لم يحدث.
لقد استمرّ الرئيس الأسد في انتهاجه أسلوبا رصينا يتوقّعه الشرقيّ من رئيسه، فالأسد تعلّم من التجربة الإعلامية للغربين دون أن يُصاب بعدوى الخفة التي تصاحب التخفف من الرسميات. هو إذًا يفهم جمهوره، ويعلم نقاط قوة خطاباته السابقة ويحافظ عليها.
.
6- السرعة
كان متوقّعا أن يخاطب الرئيس الشعبَ في الأيام المقبلة، ربما في احتفال في يوم وطني ما، لكنه لم ينتظر، وخرج في الشريط بسرعة يفهم منها أن المؤسسة الرسمية السورية بدأت تعطي أولوية للتوقيت على أي اعتبارات أخرى.
.
7- الاقتضاب
بعكس الخطابات التي كان الشعب يسمع خلاصاتها، أو يسمع رأي المحللين بها، فهذا الخطاب يسمع بذاته من قبل أغلب أفراد الشعب.
.
8- الشعبوية غير المبتذلة
كل ما سبق يمكن تضمينه في هذا البند، فهذا خطاب مؤهّل للشعبوية، لغته على قدر من البساطة، والمباشَرة، واللغة الشعرية، والاقتضاب.
.
أظنّ أن القيادة السورية التي أصرّت على انتهاج الأسلوب التقليدي في الإعلام، وتصدير الخطاب السياسي، كانت بالفعل تدرك أن شروط اللعبة الإعلامية تغيّرت، لكنها تأخرت في تبني الطريقة الجديدة حتى تتقنها، وقد أتقنتها بالفعل.
.
ملاحظة: لا يعيب قراءتنا للشكل ألّا يكون مقصودا في كل تفاصيله، فهو خيار واعٍ ينمّ عن تغيّر في طريقة التفكير، وإن لم تقف خلفه نظرية واضحة مفصّلة.