المتابع لما يجري في المملكة العربية السعودية، وفي الإمارات، وغيرهما يدهش مما يرى، فبعد أن كان الخطاب الديني هناك متطرفا جدا، وبعد أن كان المجتمع _في المجال العام_ يبدو محافظا، بتنا نرى خطابا دينيا مختلفا، ونرى المجال العام فيه من مظاهر التغريب ما فيه، فقناة مثل روتانا بثت برنامجا للمهندس الدكتور محمد شحرور رحمه الله، بدلا من برنامج الأستاذ عدنان إبراهيم، وشيخ مثل وسيم يوسف أخذ يعظ امرأة حول ممانعتها تدريس أبنائها الأديان المختلفة والإلحاد، قائلا كلاما راق كثيرا من العلمانيين. هنا، يأتي السؤال: هل ثمة أمر مريب في هذا؟
قبل أن نتابع الحديث، أختصر عليك طريق البحث على الإنترنت، وأعرض عليك بعض الشرائط التي توضح ما أقوله:
رأي وسيم يوسف في تدريس الأبناء الأديان الأخرى في بلاد الغرب.
في هذا الشريط ترى وجها كان من قبل مخفيا لمجتمع الشباب في الرياض
هنا يصرّح محمد شحرور أن الحجاب عرف وليس فريضة.
في الشريط فتوى سعودية حول حلية الغناء والموسيقا.
هذه أمثلة فقط، والقصد من إيرادها هو توضيح أن صورة الخليج العربي، والمجال العام فيه، ونوعية الخطاب الدينيّ في تغيّر حادّ.
برّر ولي العهد السعوديّ محمد بن سلمان هذه الانعطافة فيما صدر عنه من تصريحات لصحيفة واشنطن بوست بكون الخطاب الوهابي المتطرف كان فقط استجابة سعودية لرغبة أمريكا بالحرب على السوفييت في الشيشان وأفغانستان وغيرها، وأنه كان ردّا على امتداد الخطاب اليساري والقومي، وأن هذا التطرف بعيد عن الإسلام بصورته الأصيلة.
نحن نتحدث عن ملايين الكتب والشرائط الوهابية وزّعت مجّانا، في العالم الإسلامي، والوطن العربي. بثّ الخطاب التي حملته التطرّف في مجتمع كان بعيدا جدّا عن هذا، فالحجاب مثلا لم يكن إلا قمطة تقليدية لنساء الفلاحين ولم يكن يلاحظ في المدينة العربية تقريبا قبل هذه الحملة التي استمرّت نصف قرن.
يتفاءل كثير من العلمانيين من مشارب مختلفة، ليبرالية وقومية ويسارية، بهذه الانعطافة التي يصفونها بكونها انفتاحا، أو تحررا مجتمعيا أو سوى ذلك من أوصاف. رغم أني لا أريد تكدير فرحهم، إلا أنني مجبر على لفت الانتباه إلى أمرين محدّدين.
أولا: هل ستكون نتيجة هذه الانعطافة انفتاحا استجابة لأوامر الدول، أم ستكون النتيجة التفافا حول الحركات المتطرفة؟
لحسن الحظّ، سبق الإخوانُ المسلمون الوهابية في التنكّر لتطرّفهم زمنيا، وهذا من فم أهمّ قادتهم “إبراهيم منير” وقد غطينا تنكّره لذلك التراث في مقالة فيها رابط الشريط كاملا. رابط المقال: السيولة الإسلامية واللزوجة الإرهابية.
لكن الجماعات المتطرفة كثرت وفرّخت، فثمة حزب التحرير، وجماعة الدعوة، وداعش، والقاعدة، وجبهة النصرة، والشباب المجاهد… إلخ.
لذلك فإن تأسيس هذه الانعطافة على فكر شحرور وسواه خطر جدّا. مررنا من قبل على الخطأ في منهج محمد شحرور رحمه الله، وهذا في مقالة: لغز القرآن | ما الخطأ في طرح شحرور؟
لننظر ما حدث لجماعة الإخوان في الأردن عندما نجحت الأجهزة المعنية في شقّها، لقد انتبه بعض البارزين لكون الجمهور المتطرف لا يجد من يلبّي رغباته، فبدؤوا يلبّون رغبات هذا الجمهور، مما أكسبهم نفوذا هائلا.
ثانيا: هل هذا يقود إلى صورة الإسلام الحقيقية؟
الإسلام الحقيقي كما بيّنا في كتيّب (الدين العربي) هو عهد سياسيّ اجتماعيّ أكثر من كونه دوغما عقدية. فهل يختار الساسة في الجزيرة العربية الخيار الصحيح اليوم؟
الفكرة التي أحوم حولها هي أن الساسة لجؤوا للماكينة التي يملكونها أصلا، وهي منظومة الفقه التقليدية، فهي أداتهم المفضلة القادرة على تبرير أي خيار سياسيّ. لكن المشكلة التي تطل برأسها هي أن الخيارات السياسية لهذه الدول متناقضة بشدّة، وهذا ما جعل الواشنطن بوست التي قابلها ابن سلمان تنشر في عنوان لها: ابن سلمان هو العدوّ الأكبر لرؤيته.
أي إنك لا تستطيع إقناع الجمهور بالانفتاح بخطاب شحرور، ثم تحمل عداء طائفيا لإيران أو الحوثيين.
لقد بنى المسلمون الأوائل عهدهم السياسيّ الاجتماعيّ على أساس من أصول فكرية فردية، أما الماكينة الفقهية اليوم فهي تبني العقائد الفردية على أساس من تبريرات لخيارات الساسة، وهذه هي لبّ المشكلة.
ما حملته المدوّنة من دعوة منذ تأسيسها كان فهم أن الإسلام والإيمان عهود سياسية اجتماعية، تبنى على المعتقدات الموجودة بالفعل لدى المجتمعات، بوصفها سرديّات قادرة على توجيه الفرد وشحن طاقته. وهذا ما تركّز في مقالة: حول مصاديق المصطلحات الإسلاميّة.
بما أن الأمر كذلك، فعلى العلمانيين العرب ألا يفرحوا بهذه المظاهر.