هل تحتاج التقنية إلى تقليم؟

نستطيع أن نشبّه كلّ شيء يتعرض للبناء والهدم بكائن حيّ، فالأيض (أي عمليات البناء والهدم) هو الدليل الأهم على الحياة. خطر لي أن التقنية بتقدّمها في حياتنا يمكن تشبيهها بنمو الأشجار. تخيّل معي شجرة تنمو باتجاهين؛ عاموديا وأفقيا. النموّ العمودي هو نموّ البحث والتطوير، والنموّ الأفقي هو انتشار تطبيقات هذه التقنية.

In Mexico, ramshackle slums (left) sit shoulder-to-shoulder with the pristine homes of wealthier residents just over the fence (right) - seen in this photo, which has not been digitally modified

الصورة من المكسيك منقولة من قائمة صورة مشابهة من هذا الرابط: هنا.

لأننا رأينا في حياتنا تقنيات انقرضت قبل أن تشيع، يمكننا أن نشبهها بفروع تمّت تغطيتها من قبل فروع أعلى منها حجبت عنها ضوء الشمس، ما أدّى إلى موت الفروع الدنيا. أليس هذا يشبه ما حدث مع التراسل بالبيجر مثلا! لقد جاء الهاتف النقال، وتقنية الرسائل النصية فيه، فاختفى البيجر من السوق قبل أن تستغلّ إمكانياته جميعها.

المزعج في شجرة التقنية هذه أنها تميل إلى الارتفاع إلى الأعلى أكثر من كونها تنتشر أفقيا، ففي العصر الذي يمكن لي فيه أن أستخدم الذكاء الاصطناعي في تحرير فيلم، أو صناعة موسيقا له، أو أن يحلّ لي مسألة رياضية معقّدة حلا بشريا، يعيش أحد أقاربي حياة لا تختلف كثيرا عن حياة جدّنا المشترك.

ثمة دول يتعلّم فيها الأطفال تقنية النانو في المدارس، بينما ثمة دول ما تزال تعاني من الأميّة. كذلك ما يحصل في قطاع الدواء، إذ يعمل الأطباء على علاج نقص المناعة المكتسب بينما ما تزال أمراض بدائية تقتل أعدادا هائلة من البشر. ألم يكن الأجدى أن تتفرع شجرة التقنية قليلا لتشملهم بظلها!

السبب في هذا النموّ المشوّه لشجرة التقنية هو الرأسمالية، فأقسام البحث والتطوير في الشركات التقنية الكبرى تعنى بالزبائن الذين يدرّون عليها دخلا، لا بالناس البسطاء الذين ما يزالون يعيشون حياة بدائية. في الحقيقة هذا ليس مبررا، فالمجتمعات البدائية يمكن النظر إليها بحسابها أسواقا واعدة للتقنية، لكن الطريقة التي يفكر بها رأس المال مقرونة بقوانين الملكية الفكرية، وبالعقلية الاستعمارية القديمة. أي أن الرأسمالية من هذا الجانب يمكن أن تصنّف على أنها ضيقة الأفق كثيرا.

حتى الشركات التي تفكر بالانتشار أفقيا، فتعد بإيصال شبكة الإنترنت لأفقر المجتمعات، تنظر من زاوية ضيقة إلى هذه الفرص. قد ترى منشورات على فيسبوك لصور التقطها أطفال حفاة عراة معرّضين للمرض يتلقون تعليما سيئا يتنقلون في شوارع غير معبّدة.

لو نظرنا إلى دراسة الطب كمثال، سنجد أنفسنا أمام ثلاثة نماذج: الرأسمالي، الاشتراكي، الشيوعي.

في النموذج الرأسمالي يبقى الطبيب يدرس بطريقة جنونية ليصل إلى إحدى التخصصات الدقيقة التي تمكّنه من الحياة برفاه، وخلال ذلك يخسر حياته الاجتماعية، ويعمل بأجر زهيد في المستشفيات التي تتقاضى أضعاف راتبه لقاء أي من خدماتها الفندقية، فنجد أنفسنا أمام طبيب مفارق لكل القيم الإنسانية المتلازمة مع تخصصه.

أما في النموذج الاشتراكيّ فإن الدولة تكفل العلاج، وتكفل للطبيب حياة كريمة، وهذا النموذج مطبق في دول رأسمالية بالمجمل، لكنها رأت أن بعض القطاعات يجب أن تكون اشتراكية.

أمّا النموذج الأخير فهو النموذج الكوبيّ، حيث تقدّم كوبا أفضل رعاية صحية في العالم، ليس لأنها تقدّم أبحاثا طبية متقدّمة، بل لأنها تدرس الطب بطريقة (الطب الاجتماعي) حيث يعمل الطبيب منذ سنته الدراسية الأولى في علاج أفراد المجتمع من الأمراض السهلة المنتشرة التي لا يدرّ علاجها دخلا، وكلما تقدم في دراسته ارتفع مستوى خدماته المجّانية ليصل إلى علاج أمراض دقيقة ونادرة.

بجانب أكبر المستشفيات الرأسمالية سترى حيا فقيرا يعاني بعض أفراده من امراض غير مثيرة لرأس المال، لكنها تفتك بالناس على عين الأطباء، الذين يرون حجم الانحراف في مهنتهم!

عودًا إلى شجرة التقنية، التي رأينا حجم تشوهها في الطب مثلا، فالتقنية التي يقود تطورها رأس المال ستنجب مجتمعات فيها استقطاب حاد، اقتصاديا وعلميا وسياسيا، وهذا أمر طبيعي لأن رأس المال يهتم بمن يدفعون. لذلك فإن على البشرية أن تدخل في طور اشتراكي _ولو بصورة مؤقتة_ لعلنا نتدارك هذا التشوه الحاد الذي نعاني منه، حيث يحمل طفل جهازا يكفي ثمنه لإطعام قبيلة من أهل بلده.

خلاصة القول: شجرة التقنية تحتاج إلى رعاية، تحتاج إلى تقليم، تحتاج ألا تترك للبحث عن منفعة آنية لرأس المال.