التفكير بالتأويل ردّا على التكفير بالتقويل

إشكالية التعامل مع النص الديني فهما أو تطبيقا إشكاليةٌ قديمة جديدة، وبالنسبة لنا نحن “عربا أو مسلمين”، كان القرآن ذاته سبّاقا لطرح القضية، وإن كان الطرح الذي أدلى به القرآن ذاته بات خلافيا، بسبب الخلاف الإسلامي-الإسلامي حول فهم “كثير” من آيات القرآن، ومع العلم أن الآيات المحورية التي تنطوي على أصول الرسالة الإسلامية كانت هي الأكثر عرضة للخلاف، فإن الآيات التي تتناول التأويل كانت عرضة للتقويل بما يناسب طروحات المُؤَوِّلين للقرآن من شتى الفرق والمذاهب، لذلك فحتى لو افترضنا اجتماعهم على فهم لها سيكون هذا الاجتماع حجة عليهم لا لهم، لأنه اجتماع على أسلوب فهم أدى لكثير من الخلاف (نتحدث هنا عن خلاف دامٍ وليس عن جدال فقط).

يدرك العرب عميقا في نفوسهم حاجتهم الموضوعية للوحدة على كلمة سواء، لكن المعضلة هي رغبة كل طائفة أن تكون الكلمة السواء هي كلمتها هي، وقد كان القرآن يوما من الأيام هو الكلمة السواء التي اتحد عليها القوم، إلا أننا أبناء يومنا هذا، ومع ذلك فلا يعد استنطاق القرآن بحثا عما يوحدنا سلوكا ماضويّا، لا سيما إذا كان هذا الاستنطاق يراعي الظرف التاريخي للأمة، ليفهم الميكانيكية التي خلق بها الإسلام حلا، ولا يتورط في حُمّى الماضي وإعادة عجلة الزمان إلى الوراء، ومن هنا كان لابد أن نتذكر أن القرآن كان “قرآنا عربيا”، نزل بلغة القوم فكان يقول فيُفهم، دون حاجة لوسيط أو ترجمان، وإذا شككت بذلك لحظةً بسبب ما يدّعيه أصحاب العمائم واللحى، فانظر لكونه نزل على قوم لدّ في الخصومة، لا يؤمنون بمرجعية “تأويله” المفترضة، فبلغ منهم قلوبَهم وكان هو الممهِّد للخضوع لدولة رسول الله المركزية، لا العكس. فكيف يقول القائلون أنه لا يفهم إلا بوسيط! أيا كان هذا الوسيط، سواء كان رسولا أو “شيخا”، فلو قبلنا زعمهم هذا سيسقط الخطاب القرآني كله، إذ لا يكون بعد ذلك بيانا للناس ولا قولا بليغا، فيكون دون الشعر (الذي يفهمه العرب بخاصتهم وعامتهم) منزلةً! حاشى للّه أن يكون عيّا يحتاج من يُبين عنه!

بيد أن انتشار الإسلام بين العجم ودخولهم كمكوّن مكافئ للعرب في “الدين” (الدين هنا بمعناه الأصيل أي النظام)، واختلاف الحواضر العربية، أدخل اللغة في طور مختلف، وهو نتيجة طبيعية لاختلاف الحواضر، يعبر عنه القدماء بفساد اللسان، وهو هنا مفارقتهم للأصل الذي نزل وِفْقه القرآن، مما خلق حاجة لضبط حرفه شكلا وترقيما، تجنبا للّحن (القراءة غير السليمة)، ولتفهيمه بلسان كل حاضرة، مما لا يعيبه ولا يطعن بفصاحته، بل يؤكد على اختلاف الأفهام، وكان هذا الخلاف قد بدأ والصحابة على قيد الحياة، فهو نتيجة اجتماعية للتوسع أكثر من كونه نتيجة لفناء الجيل الأول، ولا ننسى أن الخلاف في الفهم الذي سببه الهوى بدأ وقتَ يتنزل القرآن، حتى تعرض القرآن له، ثم بلغ أشده عند جماعة القراء الحفظة الذين غطى التكرار غير الواعي للآيات عندهم على معناها، فكانوا الخوارج، ولكل عصر خوارجه!

ولكي نتجنب تقويل القرآن ما لم يقله، لابدّ أن نتعرّض لآيات التأويل، فنبسط في تفهيمها، ما تجنَّبه دعاة الفرق والمذاهب على طول الزمان لأنه ليس في صالحهم، فهو يضربهم في مقتلين معاً، الأول إلغاء فكرة مرجعية اللحى والعمائم، إذ يعطي كل صاحب عقل الحقَّ في فهم القرآن، ويلقي عليه مسؤولية الاستجابة لدعواه. والثاني ضرب مشروعية وجود الفرق والمذاهب كتكتلات مجتمعية متناحرة، ويعيد للقرآن منزلتَه ككلمة سواء تتحلق حولها الأمة، ويتيح مساحة للخلاف الفردي غير ذي القوة على الفعل المجتمعي الهدّام. ويحسن هنا أن نذكر بآية تبرّئُ محمّدا (ص) من كل من يسعى للفرقة في صفوف الأمة (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ۚ …) ١٥٩ الأنعام، فليس من مشروعية للفرق، وكل من نسب نفسه لفرقة عليه أن يقرأ هذه الآية ويتفكر في عاقبة أمره، وآية أخرى تؤكد على أن القرآن قولٌ مجمل يفهم مجملا في سياقاته لا قِطعا وأدلة مُعضّاة (من التعضية والتقسيم لأعضاء أو عِضين) متفرقة يوظفها أصحاب العمائم واللِّحى (المعادل الموضوعي لطبقة الكهنة) ليحافظوا على مكانتهم ومكتسباتهم إذ يقول: (كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَΔ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) ٩٠و٩١ الحِجر، ولنتجاوز فكرة أن “القرآن حمّال أوجه” كما قال ابن أبي طالب، وقد صدق لكن على المتشابه منه، وحتى هذه الأوجه يفترض ألا يكون منها ما هو مدعاة للإفساد في الأرض، وإلا فأين “آياته المحكمات”!

ومما تكلّم القرآن به عن التأويل قوله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) ٧ آل عمران، وقوله: (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۖ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) ٣٩ يونس، وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ۖ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) ٥٩ النساء، (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ۚ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ۚ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) ٥٣ الأعراف. إضافة لورود الكلمة في سورة يوسف في غير موضع، وهنا نحن نضع الآيات بين يدي القارئ لكي يتبيّن المعنى الحقيقي لكلمة (تأويل) المفارق والمخالف للاستخدام السائد الذي سايرته المقالةُ في أولها توصّلًا للأفهام والقلوب لا قَبولًا به، إذ أن كلمة تأويل هنا تعني المآل، أي ما يؤول له الأمر، وما ينتهي له، كما في آيات سورة يوسف التي تجعل التأويل معرفةَ مآل الرؤيا وتعبيرَ الأحلام ليعرف صاحبها إلى ماذا تنتهي، وهذا ينسف الرأيين المركزيين في فهم آية سورة آل عمران، أي من قال بلزوم الوقف بعد (لا يعلم تأويله إلا الله) ومن قال بحرمة الوقف بعدها، فالأول يقبل بِكون بعض القرآن طلاسمَ لا يفهمها إلا قائلها، وأي فصاحة في ذلك!، والثاني يقبل بكون الراسخين في العلم يفهمونها مثل الله، مما يعطيهم سلطة كسلطة الله على العقول! فيكون المعنى، بعد أن عرفنا أن التأويل لا يعني الفهم، أن الله أنزل القرآن الذي فيه آيات واضحات تتحدث بمفاهيم يملك الناس مصاديقها، فيَعونها ويعرفونها، وهي أس الرسالة وأساسها (أم الكتاب)، وآيات أخرى أخبرت عن الغيب الذي لا نعرف مصاديق مفاهيمه إلا أن نتبين معناه المجمل كما نتبين لغة الشعر ولله المثل الأعلى، فنحن لا نعلم حقا إلى ماذا تؤول وتنتهي، إذ لنا فهمنا وتصورنا عن القيامة مثلا، التي يوم يأتي تأويلها سنرى شيئا جديدا ما خبرناه ولا علمناه من قبل، فمن صدّق بالمحكم ورد الخلاف في المتشابه لله، فهو راسخ في العلم، أعطى الأمن للناس فكان مؤمنا بالله.

وبعد هذا نقول: إن من تصدّى لما هو ليس بأهل له، من الدعوة وتعليم الناس كتابهم، يصر على فهم مخالف للعربية لآية المحكم والمتشابه (٧ آل عمران) ليمسك بزمام عقول أبناء فرقته، ويصر على أن النقل مقدّم على العقل ليقبل أتباعه أن يعطلوا عقولهم ويقطعوا صلتهم بالله وكتابه، ليكون هو الوكيل الحصري لله على الأرض، ويتركوا لعقله هو السلطة على النص الذي قبلوا بسلطته على عقولهم، فيفسد بذلك لبَّ الدين ويهدم أساسه بكونه خطابا يأخذ من الناس خضوعهم لدين الإسلام (النظام الذي وحد العرب في دولة مركزية) جرّاء خضوعهم لقوة دولته وحزبه وميليشياته، ليتنكّب الطريق مقلوبا، فالأصل في الإسلام أن الناس يخضعون لدين الدولة (نظامها) جراء خضوع قلوبهم وخشوعها لقول الله، الذي فهموه بعقولهم، لا بعقل صاحب اللحية والعمامة، الذي يقوّل النص الديني ما يريد هو، لا ما يريد الله، وبهذا فنحن وضعنا يدنا على أساس فكرة التكفير وقتل المخالف، فهي السبيل الوحيدة لمن أغلق قلبه وعقله بسبب مكتسباته التي صمّت أذنيه عن قول الحق، ليسود البلاد والعباد، فيعيث فيها الفساد، ويجعل ذوي الأرحام يقتتلون ويقطعون أرحامهم ويمارسون كل ما تراه في الآيات حول الآية ٢٤ من سورة محمد التي تقول : ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)!