ثمة نموذج راسخ في الذهنية العربية لمن يطلب الحق لذاته، كالمسيح، وأبي ذرّ، وعليّ، وابنه الحسين عليهم السلام وغيرهم. هذا النموذج مرتبط أيضا بقول عليّ ابن أبي طالب: “لا تستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه”، أو قوله: “اعرف الحق تعرف رجاله”، والتشبيه المأثور: القابض على دينه كالقابض على الجمر.
هذا كلّه مما يصوّر للإنسان أن اتباعه للحق ونزوله عليه وطلبه لا بدّ أن ينتج غربة عن المجتمع الذي هو ظالم بالضرورة، ومنه جاء المثل الشاميّ الدارج: اللي بيقول الحق بتنخزق طاقيته. درج هذا النموذج إلى أن باتت إحدى علامات المحق أن يكون منبوذا “مدفوعا بالأبواب”.
يحضر هذا النموذج في السينما العربية من المحيط إلى الخليج، وأبرز هذه الشخصيات شخصية “سلام” في الفيلم المغربي “الجامع” الذي يقبل أن يشترك في هدم المسجد مع كونه فقيها لأنه لا يخشى في الحق لومة لائم، لكنه منبوذ يعيش في مقبرة.
يغيب مثلا عن الذهنية الجمعية أشخاص مثل محمد النفس الزكية، وغيره ممن نجحوا في مسعاهم إلى حدّ ما، إذ إن هذا النموذج من طلّاب الحق يتّصف بما يمكن تصنيفه نوعا من البراغماتية، وهو نموذج محدود الحضور في السينما وفي المخيال الجمعي، فلا يتوقع الناس من المحقّ أن يبحث عن الأنفع بل يجب دائما أن يبحث عن الأصوب.
الذي يهمنا في نموذج “المحقّ المغترب” هو السلوك المترتب عليه عند المعجبين به، إمّا في اتباع المستضعف أو في السلوكات الطاردة للتأييد الشعبي، إذ يشعر المراقب أن متبنيَ هذا النموذج يكون فظّا بصورة متعمدة، ويحذّر من كل شاردة وواردة، ولا يطمئن لأي شيء يجتمع حوله الناس.
هذا النموذج وإن كان غير واضح الفساد عندما ننظر إلى شخص واحد يتبناه، فإنه بائن المفسدة عندما نراقب مجتمعا كاملا يتبناه، لأن كل من يتبناه يحرص على انتحاء جانب وحده أو مع مجموعة ضيقة من المخلصين، وهكذا نحصل على مجموعات مغتربة عن واقعها متناحرة فيما بينها، لا على مجتمع حيّ يحدث فيه حوار بناء، ويجتمع الناس فيه حول برامج ثم يتفرقون حول أخرى.
إن كثرة التحذير من كل شاردة وواردة أمر لا طائل منه، لأن التحذير إذا كثر وشاع يفقد كونه تحذيرا، ويصبح في حكم العادة لمطلقه ومتلقيه. المغري في هذا الموقف هو أنك لا يمكن أن يظهر خطؤك، فلو حذّرت وظهر أن تحذيرك في مكانه، فقد اكتسبت مصداقية هائلة عند جمهورك، ولو حذّرت من أمر ولم يحدث شيء، فأنت تستطيع أن تعلّق الأمر بالزمن، وتقول: لم تظهر مصداقية تحذيري بعد، لكن هذا لا يعني أن الحذر غير واجب.
الطالب للحق يجب أن يفهم أنه يطلبه بصورة عملية، وأن يقبل أنّ عملية إحقاق الحق عملية تتطلب أن يكون على صواب حينا وعلى خطأ حينا آخر، فهي تنطوي على كثير من التجريب والبحث. أي أن طلب الحق شيء، وطلب أن تكون محقّا شيء آخر تماما.
عودا على بدء، إذا استحضرنا المجاز الحاضر في العنوان عند النظر إلى طلّاب أن يكونوا محقّين أي طلاب الحق لذاته كما يبدون، وطلاب إحقاق الحق بحثا عن المصلحة العامة، فإنه علينا التفريق بين من يخرم طاقيته بيده، وبين من يخرم طاقيته التجاربُ والبحثُ وتدافعُ المجتمع.