لم يكن من السهل على البشر أن يتقبلوا كل هذه التغييرات التي حدثت دفعة واحدة. لقد تخطى منحنى تطور العلم تلك النقطة التي تسمح له أن يتضاعف بصورة أسية، ووجدت البشرية نفسها أمام كل الأسئلة المؤجلة وهي تهزّ الأطر المعرفية المستقرّة، وتفرض نفسها فرضا. نعم، لقد احتاجت الأديان وقتا للتأقلم مع الحداثة، اشترت القليل منه بالإنكار، أو بتحريم العلوم الحديثة، لكن الزمن لا ينتظر أحدا. ربما فَرَضَ احتياجُ الناس للتأقلم مع الشروط الجديدة للحياة قدرا من البطء ساهم في سيرورة تأقلم الأديان مع هذا الزلزال الذي فرضه العلم.
في ظل هذا العالم الرأسمالي، القادر على تسليع كل شيء، انتبه أحدهم للفراغ الذي ظل يكبر في قلوب الناس، الفراغ الذي خلّفه عجز الأديان عن التأقلم السريع مع التغيّرات المفاجئة: القلق بصورته الهوسية، وهو من الأمراض النفسية، بات ينتشر بتسارع حاد. الاكتئاب يتربع على عرش الأمراض العقلية من جهة الانتشار. كل هذا عنى له أن شيئا ما كانت الديانات تفعله في العصور السالفة، لكنها اليوم لا تستطيعه. لذلك كله، اختار أن يصنعه على هيئة سلعة.
ربما تطفو بعض الأسماء على قشرة دماغي وأنا أتحدث عن هذا “الشخص”، وربما يكون بعضها أبرز من بعض، لكنني لا أتحدث عن شخص واحد، إنما عن نموذج تجاري، حاجة تولّد سلعة، بهذه البساطة. إنه ليس شخصا واحدا، هو مجموعة غير محصورة العدد شرعت في ملء الفراغ، وبدأ النموذج بالانتشار حتى ملأ الدنيا وشغل الناس.
لنأخذ هذا السيناريو مثلا: يلاحظ راهب بوذيّ الحاجة التي وصفناها في الفقرات السابقة، فيطوّر طريقة التأمل الواعي “مايند فلنس”، ليدعو الناس للتركيز على اللحظة الراهنة، هنا والآن. بالضبط كما لاحظ ماكدونالد حاجة الناس في مجتمع المدينة للطعام السريع، وأقام أول مطعم له. وكما حدث مع مطعم ماكدونالد “ماكدونالدز”، إذ أتى شخص وافتتح فرعا مرخصا له، ثم اشترى العلامة التجارية من الشخص التي تحمل اسمه، يحدث مع هذا الراهب، يأتيه شخص متمرس في الثقافة الرأسمالية ويتعلم على يديه، ثم يجعل من “التأمل الواعي” صناعة تدرّ ملايين الدولارات عليه.
السيناريو في الأعلى يذكره كتاب “بيع الروحانية، الهيمنة الصامتة على الأديان” بالأسماء، لكننا معنيون هنا بالنموذج، أكثر من عنايتنا بالشخوص.
لقد لاحظ الماركسيون على مرّ التاريخ أن الأديان لعبت دورا رجعيا في حقل الاقتصاد، وبقيت _غالبا_ تروّج للقبول بالوضع القائم في أي مكان وأي عصر ولدت فيه. من هنا ربما شاعت العبارة المشهورة “الدين أفيون الشعوب”، لأن أي تلاعب بوعي الطبقة العاملة، مردّه مصلحة الطبقات التي تستغلها. هنا عليك أن تجري حسبة بسيطة ليظهر لك أن التحالف بين الكنيسة واللوردات، أو بين الجامع والدكتاتوريات هو تحالف اقتصادي اجتماعي أكثر من كونه من متعلقات الدين نفسه.
يدّعي كثير من المعتنقين للأديان من التقدّميين أن هذه الرجعية هي سلوك كهنوتي وليست شيئا مرتبطاب الدين بالضرورة، وقد تكون ديانة مثل الجوتشي _وهو الدين السياسي لكوريا الشمالية_ دليلا على صحة كلامهم، فالدين يتطلب من نفسه أن يكون برنامجا ينظّم ماكينة الجموع، ليجعلها أكثر أخلاقية، ومع إدراكنا أن الذي حدث على أرض الواقع أمر آخر، علينا أن ننتبه إلى هذه الكهانة الجديدة: الإيجابية، التأمل الواعي، مساعدة الذات، التنمية البشرية، إعادة برمجة العقل، السعادة تأتي من الداخل… إلخ.
نتحدث هنا عن صناعة تدرّ المليارات، وتلتزم بالفروض العلمانية _إبقاء المشترك العمومي من مساحات ومعاملات خاليا من الغيبيات_ لكنها تملأ فراغين: فراغ يحتاج الناس ملأه للتأقلم مع الهزة المعرفية، وفراغ يحتاج رأس المال ملأه للتأقلم مع الإحباط الشعبي الناتج من التعرض للاستغلال.
فكرة شيطانية بارعة: ديانة طيّعة قابلة للتنقل بين الثقافات، حِيَل آتية من علم النفس لشراء شعور أفضل حول العالم والذات، لوم الإنسان لنفسه بدلا من لومه للعالم، سعي الإنسان لتغيير نفسه لتتأقلم مع بيئة العمل الظالمة بدلا من الثورة على هذا النظام المتوحّش.
وهكذا بعد مدّة أضيف إلى هذه الخلطة النتنة بعض الأفكار التي تستعير اللغة العلمية، من كلام عن أن المادة هي طاقة بالأصل، للاستدلال على فكرة “الذات فوق الموضوع” أو “العقل يتحكم بالمادة”، والقليل من الاكتشافات الآتية من علوم الدماغ مجتزئة من سياقها، وغير ذلك من “اللطائف” التي لا تجعلك معرفتك بها دون ما حولها إلا “نصف جاهل”. خرج بعدها طوفان من العلوم الكاذبة تستغل لترويج الطرح نفسه:
ألق اللوم على نفسك، فتفكيرك هو من جعلك فقيرا.
اقبل بشروط العمل والسوق كما هي.
تشدّق بالحب والحياة العفيّة.
طوّر مهاراتك لخدمة منطق السوق أكثر.
اشعر بالسعادة من الداخل.
ألا تبدو هذه تعويذة أو حجابا يلقيه كاهن رأسماليّ على عامل فقير؟ لو صدرت هذه التعليمات من كاهن من أي دين كان، لاتّهم أنه لم يلتزم بالشروط العلمانية، وأدخل الدين إلى مساحة السياسة الاقتصادية. ماذا يريد صاحب رأس المال غير هذا!
يدفع الكتاب المذكور آنفا الأمر إلى حدود أبعد من ذلك، ليبدأ بتصنيف الأديان والآيدولوجيات حسب المسافة التي تتركها بينها وبين رأس المال: هل هي تعاديه أم لا؟ لا أقصد هنا أن تستهدف المصالح الرأسمالية، بل أن تعادي نمط الحياة الرأسمالي على الأقل، أن تعادي المقولات الرأسمالية مثلا!
لا أريد من كل ما سبق إلا أن أدفعك للتفكير في ما يقوله لك كاهن التنمية البشرية، أو مدرّب الحياة، وفحصه فلعله قنع بوظيفة كاهن السلطة، ولعله يبيعك الأوهام لتذهب إلى عملك في اليوم التالي أكثر حيوية لخدمة صاحب العمل، ولعلك تنفق مدّخرات شيخوختك في مغامرة مالية غير محسوبة تحرّك السوق، وتزيد من ثروة صاحب عمل آخر بعد أن تفشل.
عليك أن تتذكر دائما أن عدوّ الحرية هو الضرورة، فالذين باعوا أبناءهم عبيدا في تراثنا العربيّ، لم يكونوا يكهرهونهم، لكن الحرية لا قيمة لها قبل تحقيق الضرورات. على ذلك، الكاهن أو المدرب أو المفكر الذي يبتعد عن ذكر الضرورة، ودورها في إخضاع الناس، هو كاذب أكثر من أي كاهن آخر يردد ما تراه خرافات.
ومن الطبيعيّ أن ترى صاحب العمل يقتنع بمقولات ذلك الكاهن/ المدرب، ويروج لها، لأن ذلك يصب في صالحه أوّلا!
للقراءة أكثر حول الموضوع: