من ليس يرى تفشي نزعات ما قبل الحداثة (الانتماءات التي سبقت العصر الصناعي) في مجتمعات اليوم، هو إمّا أن يكون غير مبصر، أو أنه ليس ينظر. الوطن العربي ليس استثناء، ففي كل مكان في العالم ارتفعت وتيرة النزعات الإثنية السابقة على الدولة الحديثة. لا أقول إنها كانت معدومة ثم وجدت، بل هي كانت ضعيفة ثمّ قويت. هذا على مقياس عالمي، أما لو صغّرنا زاوية النظر وحددناها بالوطن العربيّ، فربما يصح أن نقول: كثير من هذه النزعات كان معدوما، ثم وجد.
من الواضح لكثير من الباحثين أن وسائل التواصل الاجتماعي زادت في حدة الاستقطاب داخل المجتمعات، إذ هي كما يذكر مؤلف كتاب (عشرة أسباب لترك وسائل التواصل الآن): تسيّر بخوارزميات ينتج عنها تفضيل العنف اللفظي، والأحكام المطلقة… إلخ، مما يجعلها مكانا مثاليا لإبراز الحمقى، وكبح الآراء الوازنة.
لكن مسؤولية وسائل التواصل عن حدة الاستقطاب والضحالة، التي تؤدي بالضرورة إلى الشعبوية، لا تؤدي بالضرورة إلى تغذية نزعات ما قبل الدولة، أو خلقها، ولو سلمنا بكون تلك النزعات محمولة على موجة من الضحالة والاستقطاب، فهي تبقى شيئا آخر تماما.
يرد ماركسيون ظاهرة الترامبية أو البوتينية (الدوغينية) بخطابها الشعبوي إلى موت الآيدولوجيا الليبرالية، ويقيسون هذا الموت على موت الأديان، إذ عندما تعجز ديانة ما عن تفسير الواقع يكون أتباعها أمام خيارين: إما اعتناق ديانة أكثر كفاءة في ذلك، وقد تكون مطروحة أو يصنعونها هم. أو الردّة إلى أساطير أكثر عمومية، أي أنها أقل حاجة للتماسك، وغاليا ما تكون من ديانات الآباء، أي أن لها شرعية التراث والقدم.
فلو سلمنا جدلا بكون الإبقاء على حياة الدولة الليبرالية الرأسمالية ممكنا عبر وصلها على أجهزة القروض والمعونات والإنعاش الاقتصادي، فإنه لا يمكن الإبقاء على حياة الآيدولوجيا الليبرالية بالطريقة ذاتها؛ لأن الناس ترى أنها أسيرة هذا النظام الاقتصادي، وأنها لا يمكن لها الخروج من الفقر المتوارث، وبالآتي فالقيم التي ادّعتها الرأسمالية لإزاحة النظام الإقطاعيّ لن تتحقق، لن يكون ثمة مساواة وأخوية وحرية وديموقراطية تحت النظام الليبرالي الرأسمالي.
في الوطن العربي، الأمر مشابه لهذه الحال، لكنّه يحمل خصوصية متمثلة بكون الوطن العربي مجموعة من الدول الدول الطرفية التي تتأثر بالخطاب المركزي الأوروبي، بكون أوروبا مركزا سياسيا اقتصاديا مؤثرا علينا، وبكون الآيدولوجيا القومية التي حملت الدولة القطرية العربية لم تطبق حقيقة على أرض الواقع. هذه الخصوصية تجعل الفراغ الناتج عن موت الآيدولوجيا الليبرالية أكبر، وتجعل الناس تبحث عن أفكار شعبوية في التراث أو في ما تنتجه مراكز الأبحاث الأوروبية من تصورات عن تاريخ المنطقة.
هكذا إذ نشاهد زيادة النزعات السابقة على الدولة الحديثة، فإنما نحن نشاهد على الحقيقة علامات موت الآيدولوجيا الليبرالية لا أكثر.
لذلك كله، فإن نشاط أصحاب الفكر القومي الاشتراكيّ اليوم يجب أن لا ينساق إلى الجدل الاستقطابي الذي يغذي هذه النزعات، ويكفي أن يفنّد الأباطيل الواردة في طروحات أصحاب هذه النزعات، مثل هزائم عبد الناصر المزعومة، وكون العروبة ناتجة عن انتشار الإسلام، وما إلى ذلك من ترّهات تصل إلى الزعم بأن النظام الاشتراكي أكثر قسوة من النظام الرأسمالي، وأن الحكم المشيخي والملكي أكثر ديموقراطية من الحكم الجمهوريّ.
إذا ركّزنا نشاطنا في تفنيد الأباطيل، فإن الجماهير لن تجد مناصا من النظر في الفكر القومي العربي بطروحاته المتنوعة، لعلها تجد مخرجا مما نحن فيه.