حول مسلسل “جنّ” وليس عنه!

خلال كتابة هذه السطور، تدور ضجّة عارمة في الأردن حول مسلسل من إنتاج نيتفليكس الأمريكية، المسلسل حول مجموعة من طلاب مدرسة خاصة يزورون البتراء فتكون لهم مغامراتهم مع الجنّ، وخلال هذه الرحلة ثمة مشاهد أثارت حفيظة جزء صاخب من المجتمع الأردنيّ، وهي مشاهد تقبيل وشتائم بذيئة وتعاطي مواد مخدّرة.

قبل أن أبدأ، لا بدّ أن أشير إلى أن المقال ليس عن المسلسل، فأنا لم أشاهده وما سأقوله لا يحتاج أن أرى المسلسل، بل إن رداءة نيتفليكس المعتادة هي ما يمنعني من مشاهدة المسلسل، حتى أضمن موضوعيتي وحيادي بعيدا عمّا سينتابني من مشاعر ضد الشركة التي يكرهها كثير من هواة السينما حول العالم، لأسباب سينمائية محضة.

التحفظات على نيتفليكس لدى المعنيين في السينما كفنّ تدور حول المباشرة الصارخة في توضيح الواضح، مثلا في فيلم (ليل طوله 12 عاما) ثمة مشهد لسجين يتخيل زوجته معه في السجن يختتم بلقطة تلاشي لخياله لتوضيح أن ذلك كان خيالا. أيضا يتحفظ كثير منهم على كون الشركة تموضع المنتجات الاستهلاكية بصورة فجة، ولا يقتصر ذلك على الدعاية للشركات بل ويتجاوزه إلى الدعاية لآيدولوجيات بعينها، مثل حمل الشركة لواء قزح (علم التنوع الجنسي)، وإصرارها على بث الدعاية للمثلية الجنسية خلال موادّها الدرامية.

ما لا يعرفه كثير من كارهي نيتفليكس هو أنها تعمل مع منظمات دولية “حكومية وغير حكومية” للترويج لبعض الأفكار، تدفع المنظمات تكاليف الإنتاج للنص الموافق عليه، وقد ترتب العمل مع فرق الإنتاج والإخراج، وتتولى نيتفليكس بث المسلسل أو الفيلم.

كانت هذه مقدّمة لا بدّ منها قبل الحديث عن “جنّ” المسلسل الأردني من جهة مكان التصوير وجنسية العاملين، والأمريكي من حيث الإنتاج.

الدراما من حيث التعريف هي عملية التمثّل، أو التمثيل، أي أن تتصرف “كما لو أنك …” وليكن ذلك مسموعا في الإذاعة أو مرئيا على الشاشة أو مشهودا في المسرح، لا فرق. وهي مجبولة جبلا بالأدب من رواية ومسرحية مكتوبة وقصة وما إلى ذلك من أجناس سردية.

كل سرد يحمل مقولة مؤسسة، نسميها “ميتا ناريتيف” أو سردية مؤسسة، وهي يمكن اختصارها بجملة محددة، كثيرا ما تكون في ذهن الكاتب إذ يكتب، والمخرج إذ يعمل، لكنها لا تخرج عن إطارهما، إلا أن يستنبطها ناقد ما من العمل.

حدث في تاريخ الصناعة أن تتدخل الدولة في نهاية مسلسل أثناء بثه، مثل ما يقال إنه حصل مع مسلسل الأسطورة المصري، إذ تعلّق الناس بالشخصية التي يؤديها محمد رمضان، لدرجة أن كثيرا من الناس صاروا يحاولون أخذ حقّهم بيدهم، ولذلك ازدادت العراكات والجرائم، ما حدا بالدولة _كما تقول الرواية_ أن تتدخل وتغير نهاية المسلسل إلى قتل الشخصية في الحلقة الأخيرة. هنا _إن صحت الرواية_ تكون الدولة تدخلت في المقولة أو السردية المؤسسة أو الميتا ناريتيف.

لذلك، فإن وجود شخصية تقتل وتنهب ليس بالضرورة أن يكون تسويقا للقتل والنهب، بل قد تحوي المادّة سواء كانت مسرحية أو فيلما أو مسلسلا مقولةً ضدّ هذا الفعل. فهل وجود جان فال جان بطلا لرواية البؤساء ترويج للإجرام؟ بالقطع لا!

أفضّل ككثيرين من المنخرطين في نظريات الدراما أن ألجأ إلى مصطلح “أن تكون كما لو أنك …” بدلا من استخدام مصطلح التمثيل أو التقمص أو غيرها من المصطلحات، لأنه ببساطة أدقّ.

إذن يمكن القول: إن انخراطك في فعل الدراما هو أن تتصرف كما لو أنك الشخصية الموجودة في النص. وهنا يتحول الحديث تلقائيا عن النص بدلا من الدراما. الشخصية في النص هي من متعلقات الأدب أولا. لذلك، فإن النقاش يجب أن يكون حول فكرة بناء الشخصيات في الأدب.

تبنى الشخصية في الروايات والقصص بحيث تكون قابلة للتصديق. يجب أن يترك الكاتب هامشا _ولو صغيرا_ للجمهور لكي يتواطأ مع العمل ، لكي يصدّقه مؤقّتا، لكي يخاف مما يخيف الشخصية ويقلق لما يقلقه، ويفرح لما يفرحه. بهذا يكون الأدب حيوات وتجارب مضغوطة تعيشها وأنت تقرأ، أو تشاهد إذا ترجم العمل إلى دراما.

دور الممثل المحترف هو أن يتصرف كما لو أنه تلك الشخصية، فيكره إذا كرهت الشخصية، ويحب إذا أحبّت، ويشتم إذا شتمت، ويستثار جنسيا إذا استثيرت، ويموت إذا ماتت. غير أنه يفعل ذلك في الدور فقط، لكنه يخرج من الدور حيّا في النهاية، وقد يكون كشخص كارها للمحبوبة التي أبكانا على فراقها. هو كان يتصرف “كما لو أنه” فلان الذي يحبها.

يقول أحد معلمي الأدب: (واجهتني صعوبة مع طالبة قرأت قصة تسمي فيها شخصية شخصا من ذوي الإعاقة “معاقًا”، فغضبت الطالبة وقالت: اسمه ذو احتياجات خاصة.) وبغض النظر عن كون ذوي الإعاقة طالبوا بحذف تسمية “ذوي احتياجات خاصة” لأن احتياجاتهم عامة لكنهم يواجهون إعاقات، فالطالبة كانت تحاول أن تكون أخلاقية أمام الأدب، حيث الأخلاق هنا ليست بهذه البساطة.

إذا جسّدت شخصية قاتل في رواية فأنا لن أنجح حتى أغوص في دوافعه للقتل، لدرجة أن يكون منطقيا منه أن يأتي بفعل القتل، ولذلك فتصرفاته ولغته يجب أن تكون مفارقة لشخصي أنا ككاتب. هذا ما يسمّى بصوت الشخصية، أو لحنها (في الترجمات المغاربية يستخدمون مصطلح اللحن بدلا من الصوت.) وكلما كان صوت الشخصية واضحا وحقيقيا، كلما كان الأدب على درجة أعلى من الحرفة.

موت الفنون عند الإسلاميين في عصرنا يجعلهم لا يرون كل ذلك، فإذا رأوا قبلة بين شخصيتين في مسرحية أو مسلسل فهي نهاية العالم وانهيار الأخلاق، علما بأن الكنيسة تعافت من ذلك، ربما لعراقتها في مسألة الدراما. والإسلاميون يصرون على أن الدراما لها أثر بالغ في انحلال المجتمع وما سوى ذلك، فلماذا لا يتقنونها، فيقدمون شيئا يعيد بناء الأخلاق المزعومة؟

الجواب: لأنهم لا يرون الخطر بالطريقة التي يصورونها لك.

الخطر الذي يستشعره الدعاة وجمهورهم، هو تفكك قبضتهم المحكمة على المجال العام. هم يعرفون أن غير المقتنعين بالصيام سيفطرون على أي حال، لكنهم يصرون أن يبقى المجال العام بمظهر يبدي للطفل أن الجميع صائم. وكذلك في مسألة الجنس، أو سواه من المسائل.

كل مادّة تنقل صورا عن المجتمع لا توافق هواهم هي مجال للهجوم، بل حتى تلك التي تنقل تصورا مشابها لتصورهم لا تسلم من الهجوم، لأنها بكونها سردا في منافس محتمل لسرديتهم التي يصرون على كونها السردية الوحيدة. هذا ليس شأن المسلمين، بل هو شأن الإسلاميين.

لقد شنّ الإسلاميون في كل عصر حروبا مشابهة، تارة ضدّ معلم المدرسة بكونه غربي الهوى، وتارة ضد المذياع بكونه صوت الشيطان، وتارة ضد الكاسيت، وتارة ضد التلفاز… إلخ. في كل مرة كان الهجوم يختفي بعد أن يسيطروا هم على المجال، فلما ملؤوا الدنيا كاسيتات وعظية باتت الكاسيتات رائعة، وبعد أن صار لهم قنوات دعوية لم يعد التصوير حراما. هم باختصار يريدون ألا تتفسخ قبضتهم التي يمسكون بها خناق المجتمع.

الممثلون لا يمثلون المجتمع. الممثلون يتصرفون كما لو أنهم تلك الشخصيات التي قرؤوها في النص. الكتّاب لا يخلقون الشخصيات من العدم، هم بحاجة لنواة حقيقة في شخصياتهم لكي تكون قابلة للتصديق، إذن… فالدراما هي نتاج الخيال الذي هو نتاج الواقع المحسوس.

القتلة موجودون، والزناة كذلك، والمدمنون، والسرّاق… كما أن المنقذين والأبطال والعشّاق والمحاربين للإدمان والحراس موجودون أيضا. ولذلك من الطبيعي أن يوجد هؤلاء جميعا في الدراما. وهذا ينطبق على الدراما السخيفة الرقيعة، والدراما الرائعة.

كون عمل ما رقيعا أو سخيفا لا يعني انتفاء حقه بالوجود، أو انتفاء حق صانعيه بصناعته. هو ببساطة محفز لمن ينتج عملا أفضل أن يسير كالقوافل، ويترك النباح! لكن ثمة من لا يعرفون سوى النباح فهو مسيرتهم الوحيدة.

هل هذه المقالة دعوة ليبرالية لينتج كل من يريد ما يريد؟ في الحقيقة لا! تشكل المجتمعات الحقيقية أداة عامة تدافع عن مصالحها وهويتها، وهذه الأداة قد تكون دولة مثلا أو حزبا أو فصيلا مقاوما، وتتولى هذه الأداة العامة خوض غمار السباق في مجال الفنون، وتعرقل عمل أعدائها، وتدعم أرقى أشكال الفنون التي تحمل سرديتها، أو مقولاتها.

لكن الذي يحصل هو أن الدولة لا تتصرف بكونها أداة عامة فيما يخص قطاع صناعة الأفلام، فهي تيسّر تصوير أعمال صهيونية وتطبيعية، وبالمقابل تقدّم دعما  لصنّاع الأفلام، مع وجود انتقائية، وتحاصر أيضا صنّاع أفلام آخرين. أي أنها في النهاية تدخل غمار المعركة، لكنها قد تجرح نفسها أحيانا، بقصد أو عن غفلة.

أما المجتمع، أو جزء منه على الأقل، فهو يشنّ الحملات بالأسلوب المعهود ذاته، الذي يعرفه العاملون في قطاع الفرجة والإدارة الثقافية. الأسلوب هذا بات يستغل للتسويق لأعمال وقنوات بكل بساطة.

أنا متأكد من كون عدد هائل استغل الشهر المجاني الذي تقدّمه نيتفليكس ليشاهد المسلسل الخلافيّ، وبالآتي فهو بات زبونا محتملا للشركة، وهو على الأغلب سيجدد اشتراكه. أي أن الغاضبين ساهموا في نجاح المغضوب عليهم.

في المستقبل سيسرق الإسلاميون فكرة المسلسلات التي يهاجمونها وينتجون مسلسلات وعظية رقيعة، مثل ما فعلوا مع الأغاني التي كدّسوا سرقاتها حتى لم نعد نحصيها.