كثيرا ما أسمع جدالا حول ما إن كانت الدراما مرآة للمجتمع أو لا. يذكر أن المرآة من الأشياء القليلة في هذا العالم التي ننظر فيها لا إليها، مثل النار، والسماء، والعيون، وبلورة العرّافات… والشاشة سواء أكانت شاشة سينما أو تلفزيون. لاحظوا أن كل تلك الأشياء يكتنفها شيء من السحر، فربّما كانت الدراما _كشبيهاتها_ شيئا ننظر فيه فنرى أنفسنا على سطحه، وفي العمق نستبصر المستقبل أو نستحضر الماضي، وكأنها بوابة لغيب ما.
المسلسل السوري الذي تأخّر عرضه حتى هذا الموسم الرمضانيّ “ترجمان الأشواق” يمتلك اسما جاذبا مأخوذا من كتاب الصوفيّ الشهير ابن عربي الذي يحمل الاسم نفسه، ومع أنّه يحيل إلى كتاب ترجمان الأشواق في حلقات عرضت مؤخرا، إلّا أنه على غير ما توحي به الإحالة، مسلسل راهن، وليس فنتازيا تاريخية.
صاحبة دور البطولة في هذا العمل غائبة عن الشاشة غياب الآلهة التي تتوارى عن تعقيدات الحياة الدنيا، لكنّها تظهر فيما يشبه الوحي، يظهر منها صوتها، كلما تصفّحت الشخصية المحورية يوميّاتها. هذا الغياب يجعلها تمثيلا لكل ما لا يمكن إدراكه بغير القراءة المتأنيّة، لا سيّما في زمن يضجّ بالأحداث، وبين ذوات صاخبة مشتتة. إن التواصل مع هذه الشخصية الغائبة الحاضرة يشبه إلى حدّ بعيد الصلاة، لكنها الصلاة الصوفية المعنية بوحدة الوجود.
العمل يحكي قصصا عديدة، تمثل الشخصية المحورية (نجيب سالم- الذي يلعب دوره الممثل عبّاس النوري) الرابط فيما بينها. نجيب سالم مترجم (ترجمان) يعيش في بلد أجنبيّ، بعد أن غادر سوريا عن طريق التهريب، وهو سجين سياسيّ سابق بسبب معارضته الشرسة سابقا لحكومة حزب البعث. يضطر نجيب للعودة لسوريا ليبحث عن ابنته (آنا) مخرجة الأفلام الوثائقية المبتدئة، بعد أن علم بحادثة خطفها على يد جهة غير معروفة.
لنجيب صديقان أو لعلهما رفيقان، هما كمال (فايز قزق)، والدكتور زهير (غسان مسعود)، إذ يمثل الرفاق الثلاثة مجموعة حلّ لمصير اليساريّ الصادق في البلاد العربية، فإمّا أن يكون وفيّا لفكره مغتربا عن ممارسته فيتحوّل لكاتب أو مترجم كنجيب، أو يكون وفيّا للنزق الثوريّ مغتربا عن أي ممارسة تقدمية فيصبح أقرب للابتذال مثل كمال، أو يكون وفيّا للشق الإنسانيّ من الفكر اليساريّ مغتربا عن كل ما سواه فيتحول لحالة إنسانية صوفية مثل الدكتور زهير.
كمال يملك مكتبة تتحول شيئا فشيئا إلى مقهى، وهذا هو المتوقع. ففي اللحظة التي يتحوّل فيها النضال إلى أحاديث وذكريات، تتحول المكتبة إلى مقهى. وهو يمثّل المنبتّ الذي لا قطع أرضا ولا أبقى ظهرا، كما يقول الحديث الشريف. أمّا زهير فهو يستغل ثقة الأطراف المتنازعة في صدقه، ليكون جسرا لعملية المصالحة. أمّا نجيب فهو صاحب غربة كاملة، لكنّه كالشاميّ المغترب إذا مرّ بياسمينة دمشقية، تأخذه النشقات والروائح إلى حنينه، وأنا لا أقصد النشقة بوصفها فعلا إنسانيا مرتبطا بالحنين فقط، فالتراث الصوفيّ يحمل معنى عميقا لفعل التنشّق، الذي يزجّ بالروح في عواطف لا تترجم إلى كلمات.
“ترجمان الأشواق” مسلسل مشغول بحرفية عجيبة، كأن الكاتب (بشّار عبّاس) مشى واثق الخطوة في حقل من الألغام، إذ إن واقع سورية وطبيعة الصراعات والجدالات فيها وعنها، تجعل الكتابة فعلا شاقّا حذرا، لكنّ الكاتب استطاع أن يظهر جلافة السلطة الغيورة غيرة أبوية على الوطن دون أن يتورّط في تأييد من يناوئونها، واستطاع أن يظهر خيرية الجيش وتضحياته، واستطاع أن يظهر تخبّط المعارضات، وكل هذا يحدث في خلفية القصة المنسابة كقطرات الندى التي كلما تجمّعت باتت أسرع.
تعرض القصة على قماشة مزخرفة بدقّة، تحضر فيها اللوحات الفنية لأيقونة اليسار السوري الفنان التشكيلي يوسف عبدلكي، وتحضر فيها صور الأيقونات اليسارية مثل لينين وماركس وإنجلز، بالإضافة لخليط عجيب من الصور يمثل الثقافة التي نشأ عليها السوري بمعناها الواسع، حتى أبطال الرسوم المتحركة. هذا في خلفية العمل البصرية. أمّا داخل الكادر فنجد أنّ فريق الإخراج والتصوير تمكّن من جعل كل لقطة تقريبا لوحة فنيّة تستحق التأمل. أقول تقريبا، لسبب؛ فبعض المشاهد لم يُعتنَ بها كما اعتُني بغيرها، إذ إن المشاهد الذي يعوّده المخرج أنّه يعني كل تفصيلة تظهر على الشاشة يشعر بخليط من المفاجأة والخيبة عندما يرى مشهدا لم تصغ تفاصيله بدقّة، نرى ذلك مثلا في مشهد رجل مسنّ يهمّ ببيع كتبه القديمة، ثم يظهر امتنانه لصاحب المكتبة فيهديه أول كتاب اشتراه وهو في المدرسة، لكن الكتاب له غلاف ملوّن حديث، لا يمكن أن يكون من مقتنيات هذا المسنّ الطفولية.
موسيقا العمل حاضرة كالمشاعر التي يمكنك الإحساس بها، لكن لا يمكنك القبض عليها، وهذا لعمري إتقان يستوجب الذكر. الموسيقا نافذة المشاهد إلى ما لا يقال ولا يرى في نفوس الشخصيات. لا يمكن ذكر الموسيقا دون التطرق إلى الراقصة شاليمار ذات العلاقة بكمال، فهي إذ ترقص على أحطّ الأغاني للزبائن في النادي الليلي، تختار مقطوعات السبعينات والثمانينات العراقية لترقص عليها في البيت أمام حبيبها، وهذا يجعل شخصية الراقصة شخصية مجسمة، وهي التي طالما أظهرتها الدراما العربية شخصية مسطحة. إذن، هي لا تحب فقط، بل وتعرف كيف تحبّ.
لا أملك وأنا أناقش شخصيات العمل إلا أن أتذكّر موباسان، الكاتب الفرنسي الذي أعاد تشكيل مفهوم الشرّ، فلم يعد نزوعا إنسانيّا بقدر ما هو نتيجة طبيعية للخليط غير المتجانس من نوازع الخير لدى الناس. كل شخصية في العمل _حتى الآن_ تريد الخير، لكن تفاعل الشخصيات ينتج عنه شرّ عظيم.
أن تنتج المؤسسة السورية العامة للإذاعة والتلفزيون مسلسلا يتحدث عن الأحداث المؤلمة التي مرّت بها البلاد، دون أن يشيطن طرفا بعينه، ملتزما بكون الإنسان يريد الخير، لكنه ضحية ظروفه ومعتقداته، فهذا بحد ذاته رقيّ يسجّل لسوريا، وإن كان حجب المسلسل سابقا يمثل شيئا من الأمراض الفصامية التي تعاني منها الإدارات العربية كلها.
الذي ينصف الجميع يغضب كل من يرى نفسه صاحب الحق الوحيد. لهذا فمن المتوقع أن يغضب المسلسل من يرى الحكومة السورية خيرا مطلقا، ويغضب من يرى معارضيها خيرا مطلقا أيضا. لكنّ القصة القريبة من الواقع الإنسانيّ المعقد تدفع المشاهد للتأمّل، وربما هذا ما قصده مخرج العمل من تأخير القطع المتكرر، الذي أساء برأيي لإيقاع العمل.
عودة على بدأ، إذا كنّا نقبل أن تكون الدراما مرآة للمجتمع، فعلينا قبول صورتنا في المرآة، لا سيّما إذا كانت مرآة مستبصرة، لا تنقل الصورة السطحية فقط، وليس علينا توقع أو قبول أن تكون الدراما صورة سيلفي مليئة بالفلاتر التي تظهر الإنسان بالصورة التي يريدها عن نفسه. إن “ترجمان الأشواق” خطوة جادّة في عودة الدراما السورية لكونها أداة كشف، لا تكتفي بالصورة السطحية، ولا تستخدمها السلطة لتصدير صورة مثالية لا يمكن تصديقها، ولا يستخدمها المال الخليجي لتصدير صورة متخيّلة عن المجتمع السوري على طريقة باب الحارة. لقد نجح كاتب العمل ومخرجه في أن يعيدا عبّاس النوري لكونه فنّانا لا أداة.