من المنبر إلى الفراش | قراءة في تسجيل البغدادي الأخير

في الخطابات الصادرة عن داعش جميعها، باستثناء خطابَيْ البغدادي، كانت عيون المتحدّثين الحريصين على سلامة اللغة العربية تتنقّل بسرعة، مما يفضح استخدامهم لعارض النصوص (تيلي-برومبتر)، لكن خطاب البغدادي على المنبر كان مختلفا، ورغم أنّه التزم بكل الديباجات الشائعة، أي أنه لم يأت بجديد من جهة المعنى، إلا أنه كان جذّابا لقطاع كبير من السلفيّين، وربما لعبت اللغة السليمة دورا أساسيا في ذلك.

اللغة العربية تصنّف من العلوم الضرورية في الدين الإسلامي، لأنها بوابة التعامل مع النصوص المؤسسة لهذه الديانة، وهذا يتمظهر لدى العامة لا سيما السلفيين منهم من إخوان ووهابية على شكل مسلمة تقول: إن إتقان اللغة العربية شرط من شروط العلم الديني.

لذلك، كان لابدّ للخليفة المزعوم أن يتحدث العربية بطلاقة عفو الخاطر. وأتذكر أنني استمعت إليه بحثاثة محاولا الإمساك بخطأ لغوي أو نحوي واحد فعجزت، وربما أخطأ، لكن إن فعل، فهو خطأ هين قليل لا يكتشفه السلفيّ العاديّ.

بعكس موادّ القاعدة البصرية، حرصت داعش على إدخال الجمهور في موادها البصرية، وكأنها تركّز على أنّ المتحدث الداعشي يتحدث مع جمهور منفصل عن جمهور الشاشات. نتذكر بن لادن والظواهري وهم يتحدثان إلى الكاميرا مباشرة، فنراهما يعتمدان من وراء الشاشات على أنهم جمهور خطابهما. أمّا هنا، لدى داعش، فالأمر مختلف، ثمة دائما جمهور حاضر أمام الكاميرا.

في التسجيل الأخير للمدعو “أبو بكر البغدادي” ظهر متربعا على فراش، لا معتليا منبرا، وكان متأنّيا جدا في حديثه، بحيث يترك فراغات مساوية لأوقات الحديث تقريبا، وحوله مجموعة من جلسائه. لكنّه لم يتمكّن من ضبط لغته كما سبق، فأحصينا له الخطأ تلو الآخر.

حرص مخرج التسجيل أن يظهر لنا أن البغدادي لا يقرأ من جهاز، وليس ثمة مبرر للكادر (فوق الكتف) إلا هذا، لكن السؤال هنا: هل حقّا كان البغداديّ يتحدّث عفو الخاطر؟ أزعم أنه لم يكن كذلك.

أظنّ أنّه ثمة سمّاعة موضوعة في أذنه اليسرى التي لم تظهر لنا، كان يتلقى بوساطتها كلماته التالية، وهذا هو المسوّغ الوحيد لفترات الصمت التي تخللت حديثه، وكانت تقريبا مساوية لمدد الكلام.

حسنٌ، ماذا نستنتج من ذلك؟

لأنّ الحلّ الذي لجأ له التنظيم الإرهابي في إخراج زعيمه على أنه متقن للغة هذه المرة كان بهذه البدائية، فلنا أن نظنّ أن داعش بالفعل باتت أضعف من ذي قبل، وقد تُركت لمواردها المحلية، والحلول التي تفتّقها عقول أعضائها بصورة ارتجالية.

لأن الخطاب كان استرجاعا لطريقة بن لادن في توسيع رقعة الصراع، لنا أن نستنتج أن داعش غيّرت نهجها، وهذا يعني بيعات متفرقة في بؤر الفوضى في العالم الإسلامي، وعمليات عنفية خاطفة هنا وهناك.

لنا أن نستنتج أيضا أن الفصاحة التي ظهرت في خطبة البغدادي الأولى كانت مصطنعة، وكانت مقدّمة بيد خبرات لم تعد موجودة لدى داعش، وربما لم تكن في حوزتها يوما، ولكن من هم وراءها قادرون على تصدير هذا النوع من الخطاب متى أرادوا.

لا بدّ من الإشارة إلى أن أصحاب الخطاب المغاير لداعش من التنويريين وغيرهم عليهم أن يمتلكوا من أدوات اللغة، وطرق تصدير الخطاب ما يمكّنهم من الوصول إلى عقلية المسلم السلفي البسيط، فهذا واحد من أهمّ أسباب القوة والانتشار في هذا الميدان.