سلافوي جيجيك وجوردن بيدرسون| مناظرة الغوغاء

(السعادة، الشيوعية أم الرأسمالية) كان هذا عنوان المناظرة التي عقدت منذ أيام بين المحاضرين في مجال علم النفس اللذين اكتسبا شهرة عريضة، سلاوفي جيجيك عن الشيوعية، وجوردن بيدرسون أو بيترسون عن الرأسمالية. وقد انتظر كثير من الشباب هذه المناظرة، بسبب شهرة الرجلين بسلاطة لسانيهما.  ولكن هل حدث شيء مما كان متوقعا؟ قبل ذلك، ما الذي كان علينا توقعه من هكذا مناظرة؟

“البقّين إياهم”

هذا مصطلح مصري شهير يصف كلاما معتادا يقال في مناسبات متشابهة، إذ يقول المصري واصفا كلام شخص قيل بحكم العادة: “قال لي البقين إياهم”. ولأن شهرة الطرفين جاءت من اليوتيوب في الأساس، على الرغم من كل أعمالهم النظرية، فإنه كان مغريا لهما أن يعيدا الجمل المفضلة لدى جماهير كل منهما، ويحصدا التصفيق.

الذي يحتل المرتبة الأولى في كونه يستخدم “البقّين إياهم” هو سلافوي جيجيك، فقد أعاد طُرفا قالها من قبل مرارا، ويعرف مسبقا أنها تروق لجمهوره، وهذا حدث في الأساس أثناء الردود والمحاورات، لا في الطرح الأساسي، ما يشي بصحة نيته المعلنة بعدم إجراء حوار حقيقي، لأنه في وقت عرض أطروحته تحدّث عن أشياء أخرى غير موضوع الماظرة.

ظهر جيجيك مؤيدا لحكومات التكنوقراط معاديا للجماهير، ومناديا بالحكم الرأسمالي الموجّه لضمان نوع من العدالة في الأساسيات، وهذا أقصى ما ذهب إليه. الطرافة هنا أن جيجيك قال في أحد تسجيلاته: العدو الأخطر للشيوعية هي الاشتراكية. وهنا هو ينادي بصورة من الميل الاشتراكي لدى الدول الرأسمالية، ما يضعه في تناقض صارخ مع ادّعاء أنه شيوعي، ومع ادّعائه أن الاشتراكية هي أكبر أعداء الشيوعية.

رجل القش

أمّا بيدرسون الذي بدأ الحديث بطرحه، فقد اتخذ من البيان الشيوعي نصا مرجعيا لتوجيه ما يظنه “ضربات قاضية” للطروحات الشيوعية. وكما هو واضح من طريقة تناوله للبيان الشيوعيّ، كان بعيدا كل البعد عن الفكر الشيوعي، ووضّح بكل وقاحة أنه على غير دراية بأي نص شيوعي آخر غير هذا النص الذي لا يفهمه بصور لائقة.

أي أننا كنا أمام مشهد مسرحي لبيدرسون وهو يصنع تمثالا رديء النوعية من القش لماركس، ثم يحرقه ويظن أنه أجهز على طروحات ماركس. وهي مغالطة حجاجية معروفة باسم “رجل القش” مارسها بيدرسون أمام عيني الشيوعي المزيف الظريف سلافوي جيجيك، دون أن يواجه اعتراضا حقيقيا منه.

وبعد أن غمره جيجيك بكلام آخر بعيد الصلة عن موضوع المناظرة، انتقل بيدرسون إلى استراتيجية “البقّين إياهم” فأعاد مقولاته المعتادة التي تستجلب التصفيق عادة. ويا للصدفة فقد صفق الجمهور لدى سماعه يقولها للمرة العشرين ربما!

الجاهل السليط والدنيء المتحذلق

كان جهل بيدرسون يمتد إلى مناطق أخرى غير الفكر الشيوعي، فهو لم يتابع ما أذاعه جيجيك قبل شهر تقريبا في مقابلته مع روسيا اليوم، إذ قال: إن بيدرسون بارع في الردود الشعبوية، كالإسلاميين، ولذلك فأنا سأستغل وقت المناظرة لأنشر بعض الأفكار المهمة لي، سأتحدث مع الجمهور وأتركه. لم يلتقط بيدرسون حتى هذه، وتفاجأ بما سمعه من جيجيك.

أما جيجيك فقد كان متحذلقا جدا في خياره الذي سبق توضيحه في الفقرة السابقة، لكنه لم يستطع مقاومة رغبته العارمة في سماع التصفيق، وتجنّب سلاطة بيدرسون، فلجأ إلى المقولات والطرف التي يعرف أنها تعجب الجمهور، ليظهر على أنه كان موفقا في المناظرة.

فوق هذا، استغل جيجيك هذه المناظرة في خصومته مع جماعة الصواب السياسي، ولعب دور الضحية المهمش، أي أنه استغل تقنيتهم، ضامّا إليه بيدرسون ذا المعارك الشهيرة معهم. لقد كنا بحق أمام عرض مسرحي يصلح له اسم “الجاهل السليط والدنيء المتحذلق”، لكنه كان عرضا مسليا، علّته الوحيدة أنه لا يمتّ بصلة للمحتوى المتوقع في مناظرة عن السعادة في ظل الرأسمالية أو الشيوعية.

فوكو وفوكوياما

في الحقيقة إن طروحات بيدرسون يجب أن توجّه ضد ميشيل فوكو لا كارل ماركس، وطروحات جيجيك يجب أن توجه ضد فرانسيس فوكوياما لا آدم سميث. المضحك أن كثيرا من استراتيجيات بيدرسون مستعارة من فوكو، باعتراضه على تهميشه وما إلى ذلك. والعديد من طروحات جيجيك هي فوكويامية الطابع، إذ إنه التزم بصورة نظام الحكم كما يراه فوكوياما.

كلا الطرفين كان يستغل ما يتقنه من أساليب يعلم نجاعتها في كسب الجمهور، دون أن يعطيه شيئا مما وعده به، ربما لإدراكهما أن صاحب الثقافة الحقيقية، سيكون قرأ الطرفين من خلال وسيط نصّي، ولن ينطلي عليه عرض الفرجة الذي قدّماه.

الاتفاق ليس مستغربا

لقد أبدى الطرفان احتفاءهما، ولم يقصّر الجمهور في التصفيق لهذا الاحتفاء، بكونهما اتفقا أكثر مما اختلفا في هذه “المناظرة”. الحقيقة أن الاتفاق ليس مستغربا أبدا، فهو له عدّة منطلقات:

  • كلاهما محاضر شعبوي متخصص في علم النفس، له معادلته الخاصة في جذب الجمهور.
  • كلاهما يعاني مع جماعة الصواب السياسيّ من ما بعد الحداثيين، ويلعب دور الضحية.
  • كلاهما مع الشكل الهرمي التسلطي للدولة.
  • كلاهما بعيد عن المبحث الاقتصادي الصرف الذي يجب أن يكون منطلقا لهذا الحوار.
  • كلاهما شفاهي أكثر من كونه نصيّا. لا يغرّكم كثرة الكتب التي كتبها جيجيك، فإذا انتقيتم صفحتين عشاوائتين منها، ستجدون نمط معالجة الأفكار ذاته. جيجيك يمتلك أنماطا يكررها هنا وهناك في كل مرة.

والأهم من ذلك كله، أن كليهما شعبويّ يبحث عن التصفيق.