إذا تحدثنا عن الزمكان بوصفه مفهوما تطبيقيا خارج الفيزياء النظرية، فإن لنا في الأدب وفي الحياة الواقعية مصداقا آخر له كمصطلح. ربما كل فرد منا ارتحل من مكان إلى آخر، ولو كان ذلك داخل الدولة نفسها، وربما المدينة نفسها، كان بإمكانه أن يلاحظ، بقليل من التدقيق، أن رحلته في المكان انطوت على رحلة في الزمن. في القرية تختلف البضائع المتوفرة، وشكل السوق، حتى أنك تجد الميزان ذا الكفتين الذي انقرض في المدينة.
لهذا فإنني إذ أتحدث عن “مستقبل جاء بالفعل”، فإن كلامي منطقي. المستقبل جاء، لكنه لم يصل كل مكان. وهذه الفكرة، على عنصريتها وتبعيتها المفرطة للغرب، للأسف حقيقية.
لنعد قليلا إلى الوراء، أو لنختر مكانا آخر لم تتغلغل فيه التقنية الحديثة، ربما يكون البادية أو جزرا منعزلة، أو أي شيء من هذا القبيل. سنجد إذا عدنا في الزمن عن طريق المكان أن فكرة الأعراف، أو التقاليد التي تتخذ من السرديات الثقافية والدينية حاملا لها، هي التي تلعب دور المنظم للمجتمع، فإذا تقدّمنا على خط الزمن أكثر، سنجد أن الدولة الحديثة في منتصفه، بقدراتها التشريعية والقضائية والتنفيذية، هي التي تلعب دور الإله، فتنظم علاقات أعضاء المجتمع من أفراد وجماعات.
قبل أن نتقدم أكثر على خط الزمن، أو ننتقل في حديثنا عن مكان آخر أكثر تشربا للتقنية الحديثة، دعونا نشبع فكرة الإله هذه نظرا، أقصد فيما يتعلق بما يعنينا منها هنا. فالإله كما أسلفنا في كتيّب “لنتكلم في الله” يلعب دور المنظم، الذي يضمن لك حدّا أدنى من الأخلاقيات المتفق عليها في مجتمع ما. يستطيع ابن البادية أن يرمي عقاله في حضن أي شيخ عشيرة بدوية وسيتلقى حمايته المضمونة، لأن التقاليد والسرديات الثقافية تضمن له الحماية باستخدام هذا السلوك. كذلك تستطيع أن تجعل أي ابن قرية فلاحية مسلمة أن يقسم على المصحف حتى تحصل على إجابة صادقة منه، وهذا لأن الثقافة أو الدين تضمن لك هذا. وبغض النظر عن دقة المثالين عند التطبيق، فإن المثالين السابقين يوضحان جزءًا من دور الآلهة في حياة المجتمعات القديمة.
انحسرت المهمات التي ينيطها المجتمع بالإله مع نشأة الدولة، وصارت المهمات التنظيمية والتشريعية ملكا للسلطات العلمانية غالبا. فأنت عندما تعقد اتفاقا في مجتمع حداثيّ، لا تكتفي بالثقة، ولا بيمين يقسمه لك شريكك، بل تلجآن لمحام أو مكتب قانوني أو كاتب عدل، لتكتبا عقدا يضمن لكما حقوقكما. وهذا يفسّر طرفا من انحسار التديّن في المجتمعات ذات البيئة القانونية الصارمة. وربما فسّر أيضا بقاء نسبة كبيرة من التدين في بلد مثل الولايات المتحدة، إذ إن بيئتها القانونية كما يعايشها الفرد الأمريكي مرنة للغاية، لدرجة تقترب من الميوعة. يخطر في بالي هنا أن أتوسع في الحديث فأذكر الدولار المعوم السعر، وجملة “إنما في الإله نثق” التي طبعت عليه، لكنني أكتفي بهذا القدر من الكلمات حول هذه الفكرة.
الآن لو قفزنا إلى المستقبل، الذي وصل بعض منه بالفعل، سنرى أن الدور التنظيمي للدولة ينحسر شيئا فشيئا، وأن البنية القانونية ذات التطور البطيء لا تناسب السرعة الهائلة التي تتطور بها التقنية، إذ إن كثيرا من التطبيقات التقنية لا تجد نصوصا قانونية تنظمها، وحتى عندما يهمّ القانونيون بالتصدي لتنظيم مسألة، فإنهم لا يتمكنون من تمرير مشروع القانون المنظم، حتى يكون الظرف التقني قد تغيّر بالفعل.
لنلاحظ هنا أن التنظيم، بحد ذاته كعملية لا بدّ منها، بات يحدث أغلبه خارج إطار الدولة كما نعرفها، بل وإنه بات هو المسيطر على سائر المناشط الإنسانية. فيسبوك أكبر جهاز إعلاميّ في العالم لا يولد المحتوى، أوبر أكبر شركة نقل لا تمتلك سيارة واحدة، إر بي ن بي لا تمتلك عقارا واحدا، علي بابا لا تمتلك مصنعا ولا مخزنا، كذلك أمازون، وهكذا… إذن الدور الذي تلعبه هذه الشركات هو التنظيم، والتنظيم فقط.
لنا أن نتحدث هنا عن آلهة جديدة، هي الخوارزميات التي يقوم عمل هذه الشركات على أساسها، فهي التي تنظم العلاقات. فكما تقوم بدورك في مجتمع بدائي فترعى الأطفال مثلا، ليضمن لك نظام العلاقات، وما ناسبه من سرديات ثقافية ودينية، أن تحصل على نصيبك من صيد بقية أفراد القبيلة الذين ذهبوا للصيد، فإنك اليوم تفعل ما تريك الخوارزمية أنه دورك، لتضمن لك أن تتلقى الخدمة التي تريدها. وفي منتصف خط الزمن كنت تلجأ للعملة لكي تحصل على مقابل لخدماتك تستطيع تحويله إلى طعام بمجرد زيارة السوق.
الخوارزميات بوصفها الأديان الجديدة، لها كهنتها أيضا وهم المبرمجون، والأهم من المبرمجين التطبيقيين الذين يصنعون البرنامج أو التطبيق “مبرمجو الميتا” الذين يصنعون البيئات البرمجية، والتي تمكنهم من امتلاك سيطرة أعلى، فمنصات إنترنت الأشياء التي تتدخل بعمل ماكينة القهوة في منزل مواطن سويدي، واقعة تحت سيطرة مبرمجي هذه المنصة.
ربما يشرح هذا المقال طرفا من اهتمام الكيان الصهيوني في عالم الأمن المعلوماتي، وكيف تسلك قواته المسلحة، أي ميليشيات ما يسمّى “جيش الدفاع الإسرائيلي” سلوك شركة موارد بشرية للعاملين في قطاع التقنية، فهم يرون أن المستقبل لهذا النوع من التقنية.
أتشاءمت؟ ثمة خبر مفرح، إن التنظيم الذي هو مجال هذه الخوارزميات، وهؤلاء الكهنة، عندما كان تحت عمل الدولة باستخدام العملة للتبادل، كانت المجتمعات المضطهدة تتمرّد عليه باستخدام التنظيم البدائي، أي تبادل السلع بالمقايضة مثلا. هذا يحدث بالفعل في فلسطين مع كل حظر تجوّل مثلا. وقد يلتف المجتمع عليه باللجوء إلى الأعراف الانبثاقية، التي تنطلق من قواعد بسيطة في سلوك الفرد، لتكوّن نظاما اجتماعيا معقدّا. أي أن الإله كما يعرفه جيل أجدادنا بوصفه ضامنا مجتمعيا لعملية التنظيم، قد يكون قادرا على منحنا القومة لهزيمة كهنة الخوارزميات وشركاتهم. (لمعرفة المزيد حول التنظيم الانبثاقي اقرأ مقال: من أنتم؟| السؤال الأكثر ذكاء)
كذلك لعب الدين السياسي “جوتشي” دوره في بناء كوريا الديموقراطية الشعبية “الشمالية”، وتلعب قواعد المسلكية لدى المقاومة في لبنان وفلسطين دور المنظم الضامن للمصلحة الجماعية.
أما نحن الواقفون على أطلال الدولة في نهاياتها، الذين لم يبلغوا المستقبل قبل أن يبلغهم، فنحن نشبه الإنسان البدائي الذي تغزوه أمّة أكثر تطوّرا، فيستنجد بالأرواح المقدسة لتنجده، مع أن أجداده الذين صنعوا هذا المفهوم صنعوه لغرض آخر غير صدّ الغزاة.
ولا بدّ من الإشارة إلى أن الدولة لم تهزم كليا أمام الشركات، وما زالت الجغرافيا (لمعرفة المزيد حول آثر الجغرافيا اقرأ مقال: من الذي يتحكم بالسياسة الدولية؟) تلعب دورا حاسما في كل شيء، ولذلك فالأمر أقل سوداوية مما يصوّره هذا المقال.