مقال لمحمد العملة، يبحث عمّا هو سياسي في ما هو ديني، وعمّا هو ديني في ما هو سياسيّ داخل العقل الأمريكي.
المقدّمة:
“إنّ الله بحبّه الغيور لإسرائيل والشعب اليهوديّ، يبارك الشعوب ويلعنها، ويحاسب الأمم بناءً على معاملتهم لشعب اسرائيل المختار. ووفقا لتوزيع الله الناسَ إلى أمم، منح الله أرض إسرائيل إلى الشّعب اليهودي كملكيّة دائمة وفقا لعهد أبدي؛ فللشّعب اليهودي الحق المطلق بامتلاك الأرض واستيطانها، بما في ذلك يهوذا والسّامرة وغزّة والجولان”.
من إعلان المؤتمر الصهيوني المسيحي الثالث، القدس 1996
لم يكن إعلان “ترامب” عن اعتراف الويلات المتحدة بسيادة العدو الصهيوني على الجولان العربي السوري المحتل مفاجئا، بل لم يكن إعلانه السابق عن اعترافه بالقدس العربية عاصمة للكيان الصهيوني ونقل السفارة الأمريكية إليها بالأمر الغريب، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الأيدولوجيا التي ينطلق منها ترامب ومن حوله في الإدارة الأمريكية الحالية؛ والإدارات الأمريكية السابقة له؛ فالمسألة هنا تتجاوز “ترامب” نفسه، وتتعلق بنظرة جذريّة عند دوائر القرار الأمريكية تجاه الصراع العربي – الصهيوني، نلخّصها في الأوساط الشعبية بالقول: أن “إسرائيل” هي الطفل المدلل لأمريكا، وأن اللّوبي الصهيوني هو الحاكم الفعلي للولايات المتحدة بصرف النظرعن وجود جمهوريين أو ديمقراطيين في سدّة الرئاسة.
قد تربط التحليلات السياسية إعلان ترامب الأخير حول الجولان العربي بالوضع الإقليمي في المنطقة، وما له علاقة بقيام محور المقاومة بتأسيس جبهة جديدة في الجليل الأعلى –قرب الجولان-، وبداية النهاية للحرب على سورية بعد فشل المشروع المعادي في تفتيت بنية الدولة، والقضاء على الإرهاب، وكيفية التعاطي مع الأكراد … إلخ. إلا أن هذه التحليلات في العادة، تجيب عن أسئلة تعليليّة وتتعاطى مع الحدث القائم دون ربطه بالأيدولوجيا التي تقف وراءه. إنني في هذه المقالة –المكتوبة في أجزاء قصيرة- أطمح للإجابة عن مجموعة أسئلة، تبتعد قليلا عن السياسة وتحاول فهم آلية صنع القرار الأمريكي، من زاوية الأيدولوجيا والتاريخ … لماذا ينحاز القرار الأمريكي للعدو الصهيوني؟ ما جدليّة العلاقة بين الدّين والسياسية في الولايات المتحدة؟ وهل صحيح أن هناك جماعات ضغط صهيونية تمارس دورها في الداخل الأمريكي؟ والأهم، هل هناك نسخة صهيونية من المسيحية يزداد أعداد المنتسبين إليها يوميا في أمريكا؟ وإن وجدت، فما جذورها التاريخية ولاهوتها الذي يشكل عقيدتها؟! هل الصراع على أرض فلسطين يأخذ شكلا دينيّاً أصلا؟ وهل لذلك علاقة باحتلال فلسطين حتى اليوم؟
في كتابه “الكتاب المقدس والاستعمار”، يطرح مايكل بريور وقائع من القرون الستّة الأخيرة، استخدم الدّين فيها كأيدولوجيا وغطاء في المشاريع الإمبريالية التوسعية، مثل: الغزو الأيبيري (الإسباني-البرتغالي) لأمريكا اللاتينية في القرن الخامس عشر للميلاد، دور العقيدة الكالفينية خلال القرن السابع عشر في الاستيلاء على القارة الأفريقية بدءاً من جنوب إفريقيا، والاحتلال الصهيوني الاستيطاني لأرض فلسطين العربية.
قد يتساءل البعض بشكل استنكاري ما مفاده أن الصهيونية كحركة أسسها “ثيودر هرتزل” كانت مشروعا علمانيا في البداية، لكنني هنا أعود بالزمن قليلا إلى ما قبل تأسيس الحركة الصهيونية، تحديدا إلى بريطانيا، التي ظهر فيها تيّار دعي بالتّدبيرية. ما علاقة التّدبيريّة بالصهيونية؟ وما هي التّدبيرية أصلا؟
التّدبيريّة:
“كل عمل تقوم به إسرائيل يقوده الله، ويجب تأييده ودعمه وحتّى مدحه منّا جميعا”.
غريس هالسيل – في وصف الصهيونية المسيحية
تبدأ الحكاية في لندن، عام 1809، باجتماع قادة يتبعون البروتاستنتية ليؤسسوا حركة أسموها “جمعية يهود لندن”، الغرض منها تسهيل عودة اليهود في أوروبا وأمريكا الشمالية إلى فلسطين، خصوصا بعد جملة من الأحداث بدأت بالحرب الأهلية الأمريكية عام 1775، تليها الثورة الفرنسية عام 1789 ثم هجمة نابليون التوسعية الموسومة بالفشل عام 1815، والتي كانت تقضي بتأسيس ما يمكن تسميته “ولايات متحدة أوروبية”، يحكم كل ولاية ملك يعينه الإمبراطور (نابليون). بدا أن الخطة تسير على ما يرام، اكتسح جيش نابليون معظم أوروبا، ودول جنوب حوض المتوسط، قام بتدمير الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا وإعدام قساوستها، ألحق الفاتيكان بإمبراطورية نابليون ونفى البابا عن روما. لكن الحملة اندحرت في النهاية بعد الهزيمة أمام ثلوج روسيا ثم القضاء على طموحات الإمبراطورالفرنسي تماما في معركة واترلو االشهيرة.
خلال تلك الفترة أيضا تبنت كبرى الكنائس البريطانية توقّعا مذهبيّاً يقول بأن نابليون هو “المسيح الدّجال”، وعقدت لأجل ذلك سلسلة من المؤتمرات الكنسيّة بين عامي 1826 و1833 بقيادة “فرِدِن إدوارد” و”جون نلسون داربي”، تمحورت الأفكار فيها حول اعتقادات نبوئية بنهاية العالم، وعودة اليهود إلى فلسطين، وبداية الألفية الثانية بعد المجيء الثاني للمسيح. بعبارة أخرى، كانت “التدبيرية” هي التمثيل على مجموعة الأفكار هذه، وفي الحقيقة؛ من الصعب الوصول إلى تعريف مقتضب للتدبيرية، دون المرور على مراحل تأسيسها وتطورها من بريطانيا إلى أمريكا، ودراسة تفاصيل عديدة حول المنادين بها، لكنني سأكتفي في الوقت الحالي بالقول أنها “لاهوت إنجيلي” يُعنى بالقراءة الحرفية للكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد؛ إذ يؤمن أتباعها بأن ما في الكتاب المقدس تاريخ مكتوب سلفا، وأن من واجبهم كمؤمنين أن يضعوا كل جهدهم لتحقيق هذه النبوءات الكتابية التي تتوج بالمجيء الثاني للمسيح بعد سلسلة من ستِّ نبوءات تسبقها.
كان الواعظ المشهور “فرِدِن إدوارد” مسكونا بهذه التوقعات لدرجة أنه تعلم اللغة الإسبانية من أجل ترجمة كتاب عنوانه “المجيء الثاني للمسيح في مجده وجلاله”، ألفه إسباني يدعى “مانويل لاكونزا” تحت اسم مستعار هو “خوان خوسافات بن عزرا” مدعيا أنه يهودي اعتنق المسيحية؛ ليعبرعن امتعاضه من فساد الكنيسة في روما. لكن الشخصية الأهم في نشر لاهوت التبديرية -على ما يذكر باحثون ومؤرخون كثر- كان “جون نلسون داربي”، نظرا لتأثيره المتنامي في الإقناع وقدرته على الاسترسال في الحديث والمناظرة.
حمل داربي أفكاره معه إلى الولايات المتحدة الأمريكية في سبع رحلات تبشيرية خلال عشرين عاما –بداية من عام 1862-، مؤثرا بذلك على قادة وقساوسة إنجيليين ذائعي الصيت من أمثال: مودي، بلاكستون، سكوفيلد، وبروكس… تذكروا هذه الأسماء جيدا!
في الولايات المتحدة، تأثر الإنجيلي “دوايت إل مودي” بتعاليم داربي، ونقلها إلى تلميذه “وليام بلاكستون”. لاحقا؛ أسس مودي وبلاكستون معا حركة “مؤتمر الكتاب المقدس والنبوءة”، وهي حركة شعبية عبّر عن أفكارها التدبيرية بلاكستون بواسطة كتابه “يسوع قادم”، والذي قدم فيه تلخيصا شعوبيا لتعاليم نهاية العالم بمنهجية داربي التدبيرية، وكان أكثر الكتب مبيعا في فترة صدوره تقريبا عام 1879.
يلخص الكاتب “غاري بيرج” منهجية داربي بقوله: “استخدم داربي أسفار دانيال وحازيقال وزكريا والرؤيا الكتابية، لرسم صورة متماسكة للأيام الأخيرة؛ فالكنيسة يتم اختطافها، والمسيح الدجال يعود، وتنشب حرب أرمجدون، ويعود المسيح ليؤسس عهده الذي يستمر لألف عام على الأرض، ولكن فوق ذلك كله، آمن داربي بأن ولادة إسرائيل الجديدة ستكون الوسيلة الأساس لتسريع نهاية العالم”.
كيف تُرجِمَت أفكار داربي على الواقع؟ ومن الذي دفع باتجاه تنفيذها؟
الإحيائية البريطانية:
“أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض” – ثيودور هرتزل
“بلد بلا أمة، إلى أمة بلا بلد” – اللورد إرفنغ شافتسبري قبل هرتزل!
ربما كانت التدبيريّة لتظل مجرد فكرة دينية لولا تدخل بعض السياسيين الأرستقراطيين في بريطانيا أواخر القرن التاسع عشر، الذين حولوا معتقدات داربي إلى إجراءات سياسية، خصوصا اللورد إرفنغ شافتسبري، الذي لم يكن مقتنعا فقط بأفكار داربي حول عودة اليهود إلى فلسطين، إنما رأى أيضا أن ذلك ينسجم مع مصالح بريطانيا التوسعية.
لكن للمفارقة، لم يكن ساسة بريطانيا أول من اقترح قيام دولة يهودية في فلسطين، بل نابليون الذي قال التدبيريون الأوائل أنه “المسيح الدجال”! نابليون اعتقد أن وجود يهود متعاطفين مع فرنسا في فلسطين سيؤمن طريقا للمصالح الفرنسية بين آسيا وإفريقيا في إمبراطوريته التي طمح لها.
البريطانيون التفتوا لذلك بعد هزيمة الإمبراطور الفرنسي، فكان شافتسبري مؤمنا بأن ترسيخ الوجود البريطاني في فلسطين –عبر إقامة وطن لليهود فيها- سيمنح بريطانيا نقطة تفوق على فرنسا في قادم السنوات. وبالفعل، بدأ بالدعوة إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، تكون عاصمته القدس، بحماية بريطانية، لكن يتبع للدولة العثمانية، وتعززت لديه القدرة على حشد الدعم لفكرته بعد أن تزوج اللورد الشهير “بالميرستون” –وزيرخارجية بريطانيا آنذاك- من حماة شافتسبري الأرملة!
بدعم من بالميرستون، بدأ شافتسبري بتكثيف جهوده من لقاءات ورسائل ومقالات في كبرى الصحف البريطانية، لعل أبرزها ما نشرته “التايمز” في تشرين الثاني 1840 كإعلان أسمته “عودة اليهود”، وفيه يوضح شافتسبري رؤيته بقوله: “وجهت مذكرة إلى ملوك أوروبا البروتستانتيين حول موضوع عودة الشعب اليهودي إلى أرض فلسطين. وتعود الوثيقة المطروحة، التي أملاها تضافر شؤون غير عادية في الشّرق، وعلامات جديدة على نهاية العالم إلى العهد الإلهي الأصلي الذي يضمن عودة تلك الأرض إلى ذريّة إبراهيم”.
إن قلنا أن داربي هو والد التدبيرية؛ فإن شافتسبري حتما هو والد الإحيائية التي جعلت من أفكار لاهوتية مهرطقة واقعا سياسيا في عمق وزارة الخارجية البريطانية!
ظهر أثر شافتسبري بعد ذلك بسنين، خلال المؤتمر الصهيوني الأول في بازل، سويسرا عام 1897. دعي إلى المؤتمر ثلاثة مسيحيين فقط، أحدهم “وليام هشلر” ابن “جمعية يهود لندن” –التي ذكرناها في الجزء السابق-.
شغل هشلر منصب قسّيس السفارة البريطانية في فيينا عام 1885، وله كتيّب بعنوان “عودة اليهود إلى فلسطين”، يحدد فيه تاريخا خاصا تتأسس فيه الدولة اليهودية المزعومة بناءً على لاهوته التدبيري وتعاليم الألفية الجديدة.
يذكر هرتزل في مذكراته ما مفاده أنه التقى بهشلر في شقة هذا الأخير، وتملكته الدهشة حين لم يجد في الشقة سوى كتب تملأ أرضية الغرفة وصولا للسقف، وخريطة من أربع صفحات لفلسطين تغطي مساحة أرضية غرفة كاملة. يضيف هرتزل أن هشلر أراه موقع “الهيكل الجديد” ونماذج “للهيكل القديم”، ويبدو أن هرتزل فعلا تأثر بهشلر؛ إذ أطلق “دولة اليهود” كعنوان لكتابه تيمنا بكتيّب هشلر “عودة اليهود إلى فلسطين”. هشلر أيضا اختلف مع إنجليين آخرين رأوا أن العودة “للأرض الموعودة” تكون باعتناق اليهود للمسيحية، لكنه رأى أن مصير المسيحيين مرتبط بمساعدة اليهود في العودة إلى فلسطين.
رغم كل الجهود القذرة السابقة، كان “آرثر جيمس بلفور” وزير خارجية بريطانيا، ومعه “دافيد لويد جورج” رئيس وزراء بريطانيا، الشخصين اللذان شرّعا الصهيونية في الوعد الذي نعرفه جميعنا باسم “وعد بلفور” عام 1917.
منذ عام 1905، التقى بلفور مرارا بحاييم وايزمان، أول رئيس للكيان الصهيوني والذي كان أستاذا للكيمياء في جامعة مانشستر آنذاك، ومع مرور الوقت عرضت الحركة الصهيونية على بلفور مسودة النص الذي وعدت فيه بريطانيا بإقامة “وطن قومي لليهود”.
يقول بلفور في رسالة منه إلى اللورد كارزون عام 1919: “في فلسطين، لا نقترح أن نمضي شكليا في استشارة سكان البلد الحاليين”، ويتابع: “فالقوى العظمى الأربع ملتزمة بالصهيونية. والصهيونية، سواء كانت جيدة أم سيئة، محقة أو مخطئة، إلا أنها متجذرة في تقاليد طويلة الزمن، وفي الضرورات الراهنة، وفي آمال المستقبل، وفي ما هو أهم وأعمق بكثير من رغبات أو كبرياء 700 ألف عربي يسكنون تلك الأرض القديمة..”.
إن بلفور أعطى الصهيونية الغطاء السياسي الذي تتمناه، وبمزاوجة قبيحة بين الهرطقة الدينية والنفعية السياسية تحقق الوعد نحو احتلال فلسطين. استمرت بريطانيا في جهدها القذر حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، إذ انحسر تأثير التدبيرية والإحيائية، وحلت بدلا عنها في رقعة جغرافية بعيدة، قوى جديدة من إنجيليين أصوليين دعوا فيما بعد بالصهاينة المسيحيين، تتلمذوا على تعاليم التدبيرية، واستولوا على أمريكا!
من أوروبا إلى أمريكا:
“إنّ حزام الكتاب المقدّس شبكة أمان لإسرائيل في الولايات المتحدة” – جيري فولويل
دخلت التّدبيريّة إلى الولايات المتحدة أواخر القرن التاسع عشر، على يد مؤسسها داربي خلال رحلاته التبشيرية هناك، وكنا قد أشرنا إلى ذلك في الجزء الثاني من هذه المقالة بالقول: في الولايات المتحدة، تأثر الإنجيلي “دوايت إل مودي” بتعاليم داربي، ونقلها إلى تلميذه “وليام بلاكستون”. لاحقا؛ أسس مودي وبلاكستون معا حركة “مؤتمر الكتاب المقدس والنبوءة”، وهي حركة شعبية عبّر عن أفكارها التدبيرية بلاكستون بواسطة كتابه “يسوع قادم”، والذي قدم فيه تلخيصا شعوبيا لتعاليم نهاية العالم بمنهجية داربي التدبيرية، وكان أكثر الكتب مبيعا في فترة صدوره تقريبا عام 1879.
خلال عشر سنوات تلت تأليف كتابه، زار بلاكستون المستوطنات اليهودية في الأرض العربية الفلسطينية، وكان مسؤولا عن تنظيم مؤتمرات عديدة في شيكاغو لتشجيع ترحيل اليهود، بل إن تأثيره المتنامي في الدفع باتجاه إقامة دولة لليهود في فلسطين أثمر عن ولادة تجمع للأثرياء يدعمه أعضاء بارزون في مجلسيْ الشيوخ والنواب الأمريكيين، وبعض رؤساء الكنائس البروتاستنتية. وبتأييد ديني وسياسي، وتمويل مالي ضخم، تمكن بلاكستون من إطلاق حملة جمع تواقيع عام 1890 ذهبت إلى الرئيس الأمريكي هاريسون تطالبه بدعم إقامة الدولة اليهودية في فلسطين، لكن هاريسون رفض الأمر في النهاية.
ليس غريبا إذن أن يهلل “مؤتمر فيلاديلفيا الصهيوني” لبلاكستون ويعتبره والد الصهيونية في أمريكا، وأن يخلد الكيان الصهيوني ذكراه بتسمية غابة في الأرض المحتلة باسمه عام 1956.
لكن الأهم حول علاقة التدبيرية في الولايات المتحدة بالصهيونية يظهر في الفترة بين عامي 1920 و 1948؛ إذ حصلت تطورات نظرية مهمة في لاهوت التدبيرية، وولدت على إثرها الإنجيلية المعاصرة، أو ما يعرفه العالم باسم الصهيوينة المسيحية.
الفرق الأساس بين الإنجيلية الكلاسيكية “التدبيرية”، والإنجيلية المعاصرة “الصهيونية المسيحية” يكمن في أن الأخيرة نظرت بشكل حاد إلى “لاهوت الآخرة” التدبيري، حيث رفضت تلك الجداول الزمنية التفصيلية لنهاية العالم، لكنها في المقابل بوصفها منبثقة عن التدبيرية، أبقت على هيكلِ لاهوتِ الآخرة دون تلك الجداول الزمنية المعقدة، فآمنت بمخططات داربي الأساسية – إنما بشكل ديناميكي – عن عودة “إسرائيل” إلى الأرض المقدسة، واختطاف الكنيسة بعد ذلك، ثم معركة هرمجدون، وأخيرا عودة المسيح ليقيم حكم الألفيّة على الأرض.
ولأنها أبقت الأساس التدبيري دون تغيير ملحوظ، كانت تنظر إلى “قيام اسرائيل” كاختبار دائم للأصولية. لذلك، بعد أن تم إعلان قيام الكيان الصهيوني، نظر هؤلاء الأصوليون الإنجيليون إلى تلك الدولة كتحقيق لوعود كتابية مقدسة هي في نظرهم محور التاريخ.
خلال الخمسينيات والستينيات، بعد قيام الكيان المحتل على أرض فلسطين، تصاعد تأثير الصهاينة المسيحيين في كل المحافل والقطاعات، وظهر للحركة منظرون وكتّاب بالجملة، لعل أهمهم “هال لندسي” صاحب كتاب “الكوكب الأرضي العظيم الراحل”، والذي يصور فيه لندسي بأسلوب شعبي الأحداث في الأرض المحتلة وكيف “تنبأ” بها الكتاب المقدس. الجدير بالذكر أن هذا الكتاب لاقى رواجا هائلا في أمريكا، وبالمناسبة، لندسي مؤثر لدرجة أن مجلة تايمز وصفته بنبيّ ما قبل الألفيّة، كما أنه ترأس مؤسسة استشارية ضمت في عضويتها ضباط مخابرات أمريكيين وجنرالات في البنتاغون، وأعضاء في مجلس الشيوخ، وحاكم ولاية كاليفورنيا –آنذاك- رونالد ريغان.
بالحديث عن تلك الفترة من الستينيات والسبعينيات، شكّلت نكسة حزيران 1967 الحدث الأبرز والأهم في تاريخ الصهيوينية المسيحية، لماذا يا ترى؟!
لنقل أن استيلاء الكيان الصهيوني على القدس في حرب 1967 شكّل منعطفا هائلا في تعاطي الصهاينة المسيحيين مع الأمر؛ فمعظمهم اعتقد بأن التاريخ دخل مرحلته الأخيرة باستيلاء محبوبتهم “اسرائيل” على المدينة المقدسة، وعليه تضاعف دعمهم للكيان الصهيوني بشكل جنوني من أجل تسريع حدوث النبوءات المتبقية!
في مقالة مهمة عن تاريخي الصهيونية المسيحية، يصف الكاتب “دونالد واغنر” الأمر بقوله: ” بحلول المئوية الثانية لتأسيس الولايات المتحدة، تلاقت عدة اتجاهات في المشهد الديني السياسي الإسرائيلي- الأمريكي، مشيرة إلى دعم أمريكي متزايد لإسرائيل، وإلى بروز اليمين الدّيني”، ثم يلخص المسألة في خمس نقاط رئيسة هي:
شهدت الكنائس الكاثوليكية تراجعا في ميزانيتها وإراسالياتها التبشيرية لحساب صعود مخيف لكنائس الإنجيلية الأصولية.
انتخاب جيمي كارتر – القادم من حزام الكتاب المقدس- كرئيس للولايات المتحدة، مما أعطى شرعية متنامية لتيار المسيحية الصهيونية، وخلال أعوام وصل ريغان الأصولي للسلطة، مثله مثل بوش وترامب.
ارتفاع حجم المساعدات المالية والعسكرية الأمريكية للكيان الصهيوني لسببين، الأول كان حرب 1967، والثاني لتكون الدعامة الأساسية للولايات المتحدة في المنطقة بعد أن أطاحت ثورة الإيرانيين 1979 بحليف أمريكا الأقوى “الشاه بهلوي”.
صعود “الليكود” إلى رأس السلطة في الكيان الصهيوني؛ فخلال عام 1977 وصل مناحم بيغن إلى رئاسة الوزراء وجاء بخطة جديدة قوامها عسكرة الصراع مع العرب لضم مزيد من الأراضي وبناء المستوطنات. لاقت خطة بيغن ترحيبا عند صهاينة الولايات المتحدة إذ تتلائم مع أيدولوجيتهم، خصوصا وأن الليكود في الكيان الصهيوني استخدم أسماء كتابية للمدن العربية الفلسطينية مثل: يهوذا والسامرة، وتحجج بالكتاب المقدس ليبرر سياساته!
بدأت الكنائس الكاثوليكية والتيارات البروتاستنتية –من غير الأصوليين- بالدفع نحو “حل سلمي” لم يلقَ قبولا عند المنظمات المؤيدة للكيان الصهيوني في أمريكا، والتي بدأت بكسب مزيد من الدعم من تيارات الصهيونية المسيحية والأصوليين.
مما سبق، يمكننا تعريف الصهيونية المسيحية على صعيد الممارسة بالجملة التي يقولها الصهاينة المسيحيون عن أنفسهم: “مع اسرائيل سواء كانت محقة أو مخطئة”، وفي الإطار النظري يؤمن هؤلاء بلاهوت عنيف تدميري؛ فهل حقا هي أيدولوجيا مسيحية؟
لاهوت المصالح
“لا تتكون هذه الحركة من مجانين، بل من أمريكيين ينتمون إلى الطبقتين الوسطى والوسطى العليا. إنهم يتبرعون بملايين الدولارات كل أسبوع إلى وعّاظ إنجيليين في شبكات التلفاز، يشرحون مبادىء هذه المجموعة الدينية. وهم يقرؤون هال لندسي وتيم لاهي، ولهم هدف واحد: تمكين يد الله من اختطافهم إلى السماء أحرارا من كل مشكلة، حيث يمكنهم مشاهدة هرمجدون ودمار كوكب الأرض”! – ديل كراولي واصفا الصهيونية المسيحية
قلنا أن الصهيونية المسيحية تخلت عن الإطار الزمني التفصيلي للتدبيرية، لكنها أبقت على “لاهوت ما قبل الألفيّة” في إطاره العام دون تغيير، وحتى نهاية التسعينيات تنازع فريقان في الصهيونية المسيحية حول طبيعة اللاهوت المميز لهذه الجماعة؛ ففريق يقول بما يمكن تسميته “لاهوت الاستبدال”، وفريق ينحاز للاهوت الصهيونية المسيحية بشكله التقليدي. يحدد “غاري بيرج” في مقالة له افتراضات أساسية، من خلالها يمكن تمييز شكل لاهوت العقيدة الصهيونية المسيحية، وهي:
“إسرائيل” الكتابيّة و”إسرائيل” المعاصرة: وفي هذا الافتراض تقول الصهيونية المسيحية بأن عهد الله لإسرائيل في الكتاب المقدس أبدي وغير مشروط، ولأن العهد أبدي؛ فإنه ينطبق على “إسرائيل” اليوم؛ فتكون هي بذلك وريثة العهد المقطوع لإبراهيم النبي، وفي استمرار بقائها تنفيذ لإرادة الله. الخطير في هذا الاستدلال الساذج أنه يعني لاهوتيّاً أن وعد المسيح في العهد الجديد لم يلغِ العهد الأصلي لموسى النبي –في التوراة-، وأن الكنيسة ليست بديلا عن “إسرائيل”.
أرض “إسرائيل: بما أن الوعد بالأرض مرتبط في جوهره بالعهد المقطوع لموسى، وبما أن العهد لا يمكن إلغاؤه حتى برفض المسيح أو عصيانه؛ فإن أرض “إسرائيل” تصبح ملكا حصريّاً لليهوديّة فقط، وأذكر هنا مثالا على هذا الافتراض الساذج. خلال عام 2004 انسحب شارون من غزة، وجن جنون الصهاينة المسيحيين في أمريكا. قام “التحالف الوحدوي القومي مع إسرائيل” بإرسال عريضة تمثل 200 منظمة تدعم الكيان الصهيوني في الولايات المتحدة، تطالب بوش بالضغط على شارون لمنع الانسحاب من غزة، مذكّرةً بوش أيضا بأن نسبة لا يستهان بها من ناخبيه ينتمون لهذا التيار الذي يرى في خطوة الانسحاب ابتعادا وتخليّا عن وعد الله!
التطبيق المعاصر للوعد الكتابي: شكل عام 1948 نقطة فاصلة لهذه الجماعة، فقد أُعلِنَ “قيام إسرائيل”. إذن هم يعيشون في الأيام الأخيرة حسب زعمهم، وبالتالي فإن علينا توقع الشرور وانحلال الحضارة وضياع السِّلْم ومجيء “المسيح الدّجال”، وأن تحالفاتهم السياسية المعاصرة ستحدد موقفهم في يوم “هرمجدون” المصيري!
مباركة “إسرائيل”: والتي يختزلونها بإلزام أنفسهم بالآية من سفر التكوين التي تقول: “وأبارك مباركيكِ، ولاعنُك ألعنه، وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض”.
الكنيسة: تقول الصهيونية المسيحية بأن “إسرائيل” حين أخفقت في اتباع تعاليم الله، ظهرت الكنيسة كفكرة عرضية هامشية، بما يعنيه ذلك أن الكنيسة عند اختطافها –حسب تنبؤاتهم- ستفسح المكان “لإسرائيل” التي ستعود لمكانها الطبيعي كوكيل حصري لله على الأرض. ذلك يعني أن هناك عهدان لله، واحد أعطي لموسى والآخر عهد المسيح، لكن الصهاينة المسيحيين منقسمون حول العهدين، فهل وجودهما يعني أن من الممكن لليهود الخلاص والنجاة خارج عهد المسيح؟! هناك فئة قليلة تجيب بنعم، لكن الغالبية تتمسك بتفسير اعتباطي يقول بأن بركات عهد المسيح في أصلها “لإسرائيل” لأن وعود الله لا تتغير ولا تتبدل، لكن الخلاص النهائي لليهود سيكون بعودة المسيح واعتناقهم المسيحية في نهاية المطاف.
المفارقة المضحكة في ما تقدم، أن معظم اليهود ليسوا متحمسين كثيرا لافتراضات الصهيونية المسيحية. صحيح أنهم يبتهجون للدعم غير المشروط لهم من قبل تيار الصهيونية المسيحية، لكنهم في نفس الوقت ينظرون بعين السخرية لبرامجها ولاهوتها؛ وينظرون “لإسرائيل” المعاصرة أنها معنية بهم كتجمع ثقافي ديني أو “قومي” كما يزعمون هم الآخرون بطرحهم المتهافت عن “قومية اليهودية”، ولا يرونها بمنظار أنها تنفيذ لوعد إلهي. كما أنهم قلقون من مصيرهم في هذا اللاهوت الذي يرسم نهايتهم في خيارين: إما اعتناق المسيحية أو القتل في هرمجدون قبل المجيء الثاني للمسيح.
في كتابه “طريق المحرقة” يقول هال لندسي –الذي ذكرناه سابقا- أن رافضي المسيحية الصهيونية هم نازيون بالضرورة، لأنهم يرفضون إرادة الله تجاه “إسرائيل”، لكنه في مؤلفات أخرى يرسم مصيرا أسودا لليهود ويعتقد بأن ثلثيهم سيقتلون في “هرمجدون”.
إن الصهيونية المسيحية تعمد لتأويل حرفي متطرف للكتاب المقدس، يتم النظر إليه كتاريخ كُتِبَ مسبقا، بل إنه سيتحقق في زمن المفسِّر نفسه نتيجة إسقاطات غريبة على الواقع القائم. الخطأ الجوهري هنا أن الصهاينة المسيحيين يفترضون أن العهدين القديم والجديد في الكتاب المقدس يسيران بشكل متوازٍ، فيتحدث الأول عن “إسرائيل” والثاني عن الكنيسة، وهي طريقة مخالفة لباقي المذاهب المسيحية التي يقوم فيها العهد الجديد بنسخ القديم وتنقيحه وإكماله.
ومن خلال هذا التأول الغبي، تميز الصهيونية المسيحية بين “إسرائيل” والكنيسة و”الأغيار”، وتعتبر أن اليهود “شعب الله المختار”، وأن الوعود الكتابية للأرض العربية من مصر إلى العراق غير قابلة للتفاوض، وبشكل أخص القدس، ويبنون على جملة الافتراضات والنتائج غير المنطقية أن الهيكل المزعوم حجر أساس لتحقيق وعود هرمجدون التي سيقتل فيها ثلثا اليهود!
مما تقدم من كلام، يقوم ركن من أركان لاهوت المسيحية الصهيونية على عداء العرب، بمسيحييهم ومسلميهم، ويهودهم حتى، وفي كتاباتهم تظهر لمحات الاستشراق الاستعلائية البغيضة دائما، ويرون في الفلسطينيين –تحديدا- المعادل الكتابي “للأغيار”، بحسب تعبير الصهيوني المسيحي “روب ريتشاردز”: فمنزلة الفلسطينيين والعرب الذين اختاروا اسرائيل وطنا، هي المنزلة التي تقع في إطار كلمة (غريب) الكتابيّة”.
وبعد، هل يمكننا القول بأن الصهيونية المسيحية مذهب مسيحي؟!
بقراءتي المتواضعة في أدبياتهم أجد فيهم ميلا واضحا للاقتباس الأرعن من العهد القديم “التوراة”، وتفسير يتمحور فقط حول “إسرائيل” المحتلة المعاصرة، والتي ينقلون فيها وعود العهد القديم متجاوزين ألفي عام من التاريخ ومهمشين للعهد الجديد عمدا. إن الصهيونية المسيحية لاهوت غريب يركز على اليهود في الأرض، ويخلق ثنائية غير منطقية بين الكيان الصهيوني والكنيسة، يعبر مؤسس “كلية دالاس اللاهوتية” لويس شيفر عنها بقوله: “يؤمن التدبيري بأن الله يسعى طوال العصور إلى تحقيق غايتين متميزتين: تتعلق الأولى بالأرض، وتشمل أناسا دنيويين وأهدافا دنيوية، وهي اليهودية، بينما تتعلق الثانية بالسماء، وتشمل أناسا سماويين وأهدافا سماوية، وهي المسيحية”.
حاصل الأمر أنها لاهوت مصالح حتى تجاه اليهود أنفسهم، على الرغم من اقترابها الشديد من اليهودية وابتعادها عن المسيحية كابتعاد الوهابية عن الإسلام. هل نكتفي بهذا القدر؟!
حتما لا، مازال هناك أسئلة كثيرة لنجيب عنها: كيف توظف أمريكا الصهيونية المسيحية في السياسة؟ كيف ينظر الكيان الصهيوني للصهيونية المسيحية سياسيا؟ ما أهمية الكيان الصهيوني لأمريكا؟ كيف نفهم طبيعة الصراع مع خصومنا كعرب؟
أب حنون وابن بارّ!
“لأنّ للسيّد الرّبِّ غايات للمدينة، يجب أن تبقى أورشليم غير مجزّأة، في ظل السيادة الإسرائيليّة، مفتوحة لكل الشّعوب، وعاصمة لإسرائيل فقط، وعلى جميع الأمم الاتفاق على ذلك، وإقامة سفاراتها هناك … إن حقائق الله سائدة مطلقة، ومكتوب أن الأرض التي وعد بها شعبه يجب أن لا تُقَسَّم” – من إعلان “المؤتمر الصهيوني المسيحي الدولي”، عام 1996
في عام 1996 عاد حزب الليكود إلى السلطة في الكيان الصهيوني، وبدا أن نتنياهو، الرجل المفضل للصهاينة المسيحيين في أمريكا على استعداد للمضي في أجندتهم تجاه الصراع العربي-الصهيوني؛ أجندة أصابها الفتور منذ بداية التسعينيات خلال سيطرة حزب العمل على مقاليد السلطة، مفضيا إلى تفاهمات نتج عنها مجموعة “اتفاقات تسوية” مع الأردن ومنظمة التحرير، وهي ما يرفضها الليكوديون والصهاينة المسيحيون من حيث المبدأ؛ بالرغم أنها في صالحهم. حبذا لو يعي المطبعون مع العدو الصهيوني هذا الكلام!
بعد انتخابه ببضعة شهور، عقد نتنياهو في الأرض المحتلة اجتماعا لما يسمونه “مجلس الدفاع المسيحي الإسرائيلي”، دعا فيه سبعة عشر قياديا من الصهاينة المسيحيين. تمخض الاجتماع عن وثيقة تمثل البرنامج السياسي لتحالف الصهيونية المسيحية مع الليكود، يلتزم فيه هؤلاء بجملة تعهدات أهمها “أن أمريكا لن تتخلى عن إسرائيل أبدا”، بالإضافة لتأييد إقامة مزيد من المستوطنات في القدس والجولان وقطاع غزة، والالتزام بأن القدس كاملة عاصمة للكيان الصهيوني، وعلى الرغم من أن الوثيقة سياسية، لكنها تتضمن في سطورها استشهادات عديدة من الكتاب المقدس بأسلوب يعكس أيدولوجيا الموقعين عليها.
بعد ذلك بدأ تيار الصهيونية المسيحية سلسلة حملات في الولايات المتحدة تضمنت إعلانات في الصحف الرئيسة شعارها ” المسيحيون يدعون إلى قدس موحدّة”، وإعادة تفعيل برامج التبرعات السخية للكيان الصهيوني.
في الحقيقة، كان شعار ” المسيحيون يدعون إلى قدس موحدة” تحديّا للحملة التي أطلقتها مجموعة كنائس كاثوليكية وبروتستانتية تدعو إلى “السلام في الشرق الأوسط” في ظل “قدس مشتركة”. كانت مفاوضات أوسلو الاستسلامية تتداعى في ذلك الوقت نتيجة لصعود الليكود، ولم يبد أن الساسة في الكيان الصهيوني وداعميهم الصهاينة المسيحيين في الولايات المتحدة يعيرون انتباها أو أهمية لما يقوم به الرئيس الأمريكي –آنذاك- كلينتون، في تثبيت معاهدة أوسلو. في هذا السياق، يقول “جيري باور” –وهو مرشح سابق في الانتخابات الرئيسية الأمريكية وصهيوني مسيحي-: “أيا من كان يجلس في حجرات واشنطن، ويقترح على شعب إسرائيل التخلي عن مزيد من الأرض مقابل السلام؛ فإن ذلك يُعدُّ فاحشا”.
لم يكن جيري باور وحده مؤمنا بهذا الهراء، ففي ساحات الإعلام، السياسة والاقتصاد، كشفت وجوه أمريكية عديدة عن توجهها الداعم للصهيونية، أبرزها القس “جيري فولويل”، المتبجح دائما بعدد من يسيرون على نهجه ، والبالغ 40 مليونا من الأمريكيين. خلال الاجتياح الصهيوني لمخيم جنين عام 2002، وجّه الرئيس الأمريكي “جورج بوش” رسالة إلى “شارون” يدعوه فيها للانسحاب من المخيم. يومها شن الصهاينة المسيحيون حملة بريد إلكتروني شملت مئة ألف مرسلة إلى واشنطن، جعلت بوش يطبق فمه. بعد أن نجحت الحملة خرج فولويل على شاشات التلفاز ليقول: “لا يوجد ما يمكن أن يجعل الجمهور المسيحي في هذا البلد يصب جام غضبه على الحكومة أكثر من التخلي عن إسرائيل.”، وأضاف بعدها: “يعرف المسيحيون الإنجيليون الآن أنهم يستطيعون الاعتماد على جورج بوش للقيام بالعمل الصحيح لصالح اسرائيل دائما”.
بهذا المنطق تفرض الصهيونية المسيحية أجندتها السياسية، مستغلة جمهورها كأصوات انتخابية تدعم هذا الرئيس أو ذاك، لكنها في الحقيقة لا تعمل وحدها في الولايات المتحدة، بل يتحالف معها تيار قوي آخر معروف باسم المحافظين الجدد.
يعود نشاط المحافظين الجدد بشكله الحالي إلى سبعينيات القرن المنصرم، أيام الرئيس ريغان، لكن أصول التيار بدأت خلال فترة حكم الرئيس روزفلت، وتشكل التيار في البداية من جماعات المهاجرين اليهود من أوروبا الشرقية، وكانوا في معظمهم من أبناء الطبقة العاملة، الذين انجذبوا –نوعا ما- للاشتراكية، ومن هناك تحولوا “لليسار الجديد” ثم إلى الليبرالية. في مكان آخر، في الكيان الصهيوني، كان يهود أوروبا الشرقية ينشطون في الليكود، ونظرا للعلاقة الوثيقة بينهم وبين الصهاينة المسيحيين في أمريكا؛ فقد نجحوا مع مرور الوقت -عبر منظمات مثل لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية “أيباك”- في تحويل جماعة يهودية ليبرالية منظمة في الولايات المتحدة –أعني المحافظين الجدد- إلى تيار داعم للكيان الصهيوني. ليس غريبا إذن أن يكون معظم المحافظين الجدد من اليهود، وبمجرد إلقاء نظرة بسيطة على أسماء تنتمي لهذه الجماعة، نكتشف قوتها في أروقة الإدارات الأمريكية المتعاقبة.
لنعد إلى السبعينيات. في تلك الفترة كان “مناحم بيغن” الليكودي رئيسا للوزراء في الكيان الصهيوني، وكان معروفا عنه أنه بالكاد يحب المسيحيين، لكنه سعد جدا بتلاقي رؤاه السياسية في عسكرة الصراع والتوسع في الاحتلال مع رؤى الصهاينة المسيحيين في الولايات المتحدة؛ ولذلك سعى إلى التودد الدائم لهم للدخول في التحالف اليميني العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة نفسها. يلخص الكاتب “جيف هالبر” طبيعة العلاقة هذه بقوله: ” …فوجود حاخات أرثوذكس شوفينيون، يزدرون المسيحية، يحتضنون تدبيريين (يقصد الصهاينة المسيحيين) يتطلعون إلى نهاية الأيام ونهاية اليهود. ورغم ذلك، لكلا الطرفين مصلحته في استخدام إسرائيل عربة لتحقيق برنامجه السياسي، وطبعا، يجعل المحافظون الجدد –اليهود- العلاقة شرعية، والكل يستغل الكل”.
صحيح أن المحافظين الجدد هم نتاج علاقة سياسية بين الكيان الصهيوني والولايات المتحدة، لكنهم اليوم يشكلون حلقة الوصل بين الصهيونية بشقيها المسيحي واليهودي، وتمثل سياستهم حجر الأساس للرؤية السياسية الأمريكية.
في عام 1997 نشر وليام كريستول –أحد المحافظين الجدد- مشروع القرن الأمريكي الجديد، الذي يمكن الرجوع إليه في فهم السياسة الأمريكية حتى يومنا هذا، ويمكن إيجاده ببحث بسيط على الإنترنت. ما يهمنا هنا هو حديث المشروع عن “صراع الحضارات” ورؤيته للكيان الصهيوني كديمقراطية وحيدة في منطقتنا العربية –التي يسمونها الشرق الأوسط-. لأجل ذلك شرعت الولايات المتحدة في خلق “حروب وقائية” للقيام بما يسمونها “ثورة ديمقراطية عالمية” لا تعني في حقيقتها إلا تغيير الأنظمة والحكومات وإحلال بديل عنها ينسجم أكثر مع المصالح الأمريكية ويعكس القيم الغربيّة. يعني هذا بعبارة أخرى هيمنة اقتصادية تفضي إلى قيام إمبراطورية أمريكية في قرن أمريكي جديد. هل يذكركم هذا الكلام ب”الربيع العربي”؟!
يجد الكيان الصهيوني نفسه لذلك في صلب اهتمام السياسة الأمريكية؛ فإضافة للطاقة والأسواق المستقرة، يكون الكيان الصهيوني رأس حربة المشروع الأمريكي بسبب:
امتلاكه للقدرة العسكرية والتكنولوجية نتيجة الدعم الأمريكي اللا-مشروط، وتوظيفه في توسيع المصالح الأمريكية.
أنه (أي الكيان الصهيوني) يمثل النموذج الضمني الذي تحب الولايات المتحدة أن تراه في حلفائها، أو التابعين لها، لافرق هنا.
الموقع الجغرافي للكيان الصهيوني يوجد في قلب ساحة الصراع مع عدو أمريكا السياسي الحالي (العرب والإسلام)، والعدو الأيدولوجي لوجوده صدفة في المنطقة التي ينفذون فيها أحلامهم الدينية!
النقطة الأخيرة تشرح اندماج الأيدولوجيا الدينية مع الرؤية السياسية الأمريكية، فالمؤمنون بلاهوت عنيف تدميري ينهي التاريخ، يحاولون ضمنيا خلق “مسيح دجال” طوال الوقت، مرة الشيوعية، ومرة الخطر النووي، وتارة أخرى الإسلام. وعلى الجهة الأخرى يرون ضمنيا أيضا أن لاهوتهم الغريب يعكس الروح الأمريكية المهيمنة، فالأمريكيون يرون أن لغتهم وثقافتهم وإعلامهم وطعامهم ونموذجهم الاقتصادي وموسيقاهم أصبحت كلها عالمية … إنها الدين الشعوبي الجديد.
إن التقاء الثقافة والتاريخ والأيدولوجيا يخلق رؤية دينية تعزز مصالح المجتمع، وفي أمريكا دعت الصهيونية المسيحية إلى لاهوت أمريكي حصري مشوّه، يسوع إمبريالي، مادي وقوي يصفع خصومه، ويركز اهتمامه على الأرض فقط.
بسذاجة تأوليّة، وقوة عسكرية تتعامل أمريكا اليوم مع خصومها، ويستمر الصهاينة في احتلالهم. ليس هناك فرق بين بيغن وشارون ونتنياهو، كما لا يوجد فرق بين ريغان وبوش وترامب. إن صفقة القرن اليوم تعكس طموحات “مشروع القرن الأمريكي الجديد” وتفند أوهام السلام التي يلهث خلفها المطبعون ليلا ونهارا، وتجعل من المقاومة خيارا منهجيا وحيدا؛ فالخصم مدفوع بأيدولوجيا مريضة يوظف سياساته من أجلها، ويؤلف بدعا غريبة حولها. إن اللوبي الداعم للكيان الصهيوني من صهاينة مسيحيين ومحافظين جدد يوظف الدين والإعلام لخلق مظلومية عن محرقة مزعومة، تتحرج الكنائس الكبرى في أوروبا من إنكارها، بل تبدي ندما عليها؛ ليصبح هذا وسيلة لإسكات الغرب والشرق أمام محرقة حقيقية ينفذها العدو على امتداد الأرض العربية كل يوم.
الخطير هنا أن الصهيونية المسيحية بدأت تلقى رواجا في بلاد العالم، وفيها دعوات تبشيرية في وطننا العربي “مهد المسيحية”، مما لا يجب السكوت عنه، ولأن الصهيونية معادلة لليهودية، يصبح أي نقد لها نقدا لليهودية ومعاداة لكذبة تاريخية يسمونها “السامية”، ولإن كان يسوع الأمريكي تمثيلا لإمبريالية أمريكا، فإن مواجهته تتطلب استعادة لاهوت جامع، لاهوت عربي موجود لكنه مغيّب.
قبل أن أختم، أشير إلى هذه المقالة تلخيص لمجموعة مقالات وأوراق عمل جمعت في كتاب عن الصهيونية المسيحية، قدمها كاتبوها في مؤتمر أقيم في القدس عام 2004، والغريب أن هدف المؤتمر كان تعزيز وتفعيل دور “السلام في الشرق الأوسط”، لكن المجتمعين هنا يناقضون أنفسهم بالحديث عن السلام عندما يقدمون هذه المعلومات! ربما كان أجدر بهم أن يتحدثوا عن سلام حقيقي بمحاربة هذا العدو وطرده من أرضنا، لنقيم سلاما على طريقتنا نحن.
خاتمة
أعلن ترامب قبل بضعة أسابيع عن ضم الجولان العربي المحتل للسيادة “الإسرائيلية”، وفي العام المنصرم اعترف بالقدس عاصمة لها.. هل يحتاج الأمر لتحليل؟ التاريخ يملك إجابة واضحة!
انتهى.