رحلة اليقين مع حَلّة اليقطين

عرفنا اسم د. إياد قنيبي من قبل برنامجه اليوتيوبي المسمّى “رحلة اليقين”، الذي يقدّمه بالشراكة مع “الباحثون المسلمون”. كان ذلك خلال الأزمة السورية، إذ كان صوتا يدعو للتوافق بين داعش وجبهة النصرة، وله أشرطة كثيرة يتخيّل مشاهدها أنّه قياديّ ميدانيّ للإرهابيين في سوريا. حتى إنّه سبق واعتقل وحوكم وحكم بتهم تتعلق كلها بدعم الإرهاب ماديّا ومعنويّا، لكنّنا لسنا قضاة ولا نملك ملفات القضايا لنحاسبه. أمّا دعمه المعنوي وانتماؤه الفكريّ لجماعات السلفية الجهادية فهو أمر ظاهر بمتابعة أشرطته وتوصياته لمن يسميهم “مجاهدين”.

(ملاحظة: هذا المقال غير معنيّ “بإثبات نظرية التطوّر”، وليس معنيّا “بتبيان خطأ الخلقيين” أو من يرفضون نظرية التطوّر، وليس معنيا بالنقاش الدائر بين الطرفين من الأصل. إنّما يقتصر المقال على مناقشة منهج د.إياد القنيبي في سلسلة “رحلة اليقين”، ولا يقول بخطأ ما توصّل له بالضرورة، فهذا له مقام آخر.)

الدالُ السابقة لاسمه متعلّقة بدرجته الأكاديمية في مجال الصيدلة. أمّا “علمه” الشرعيّ فهو تحصّل عليه من خلال نظام الإجازات المشيخية، التي يعطيها الشيوخ لتلاميذهم. وهو للإنصاف رجل ذكيّ حاذق فصيح اللسان حاضر البديهة كما يظهر في أشرطته. وقلّما سمعت من يتقن ارتجال الحديث بالعربية الفصيحة بأخطاء نادرة كما سمعته.

أمّا العنوان فهو مجرّد تندّر على طريقة مذهب الإسلامويين في التسمية، نورده على سبيل الطرافة في الجناس الناقص، ولو أردنا دقة التشبيه لقلنا: “رحلة اليقين مع طبيخ الشحّادين” إذ هو يجمع ما يتحصّل عليه في صالحه من هنا وهناك، ثمّ يخلطه إلى بعضه في وعاء واحد، على أنّ “طبيخ الشحّادين” فيه من الفائدة الغذائية ما ليس في برنامج القنيبيّ، إذ لا تناقض البامية الملوخية، كما ينقض قبوله ببعض الأمور أمورا أخرى يقدّمها.

للإنصاف، حتى لحظة الشروع في كتابة هذا المقال لم أكن قد شاهدت حلقات البرنامج جميعها، فهي تحتاج وقتا لا أملكه، لكنني بالفعل شاهدت ما يكفي لكي أبصر المنهج المَعيب الذي انتهجه، وأنا أكتب ها هنا لأبيّن الخلل في المنهج، لا لكي أردّ بالتفصيل، فللدكتور القنيبي من الفراغ ما ليس لي، وهو يعطي الموضوع أهمّية تسمح له أن يبذل في سبيله ما لا أستطيع بذله أمام تقديري لأهمية الموضوع.

للتأكيد إذًا أكرر: أنا لست هنا لأثبت ما يدّعي القنيبي أنه نقضه، وهو “نظرية التطوّر”، ولا لأتتبع زلّاته. لكنّي هنا لكي أظهر الخلل في المنهج الذي يتبعه.

وصف المنهج

تحت هذا العنوان الفرعيّ سنعنى ببيان المنهج المتبع وصفا، دون تقويم أو تقييم. أي أننا سنصف ما يفعله د. القنيبي في مجموعة الحلقات التي سمح وقتنا بمشاهدتها، ولن نتطرق إلى تصنيف ما يفعله أو إطلاق أحكام عليه، إلا ما يفلت منا من انتقاء المفردات.

خطوات القنيبي نحو إرضاء المستمع:

  • يتوجّه القنيبيّ بخطابه إلى الباحث عن اليقين، الذي يريد أن يقطع الشكوك، ولا يبقي مجالا للتساؤل أو الشك.
  • يدّعي الدكتور أنه بالفعل يملك طريقا إلى اليقين، وأنّه سيسير بمشاهده إليه.
  • يختار د. إياد أن يخاطب المشاهد اليوتيوبيّ لا أن يكتب كتابا لقارئ، أو يكتب بحثا علميا يضعه على طاولة التشريح في المؤسسات البحثية العريقة. أي أنه يختار الثقافة السمعية حاملا ومستقبلا لطرحه، ويبتعد عن الثقافة الكتابية.
  • يصرّ البرنامج أن يضع نظرية التطور في صدام مع الإسلام، وأنه لا يمكن أن يقبل عاقل الإسلام دينا والتطوّر نظريّة في آن معا.
  • يصرّ على تسمية التطوّر بالخرافة، التي يرى أن العلم النظري بريء منها.
  • يفصل القنيبيّ بين العلم والـ”سيانس”، مدّعيا أن العلم له طرق أخرى تتجاوز العلم النظريّ.
  • يتطلّب د. إياد من العلماء أن يكونوا على اتفاق كامل في كل شيء، وكلما رأى خلافا علميا، وتصرفات بنيت على ذلك الخلاف تعلّق بها ليثبت وجود تناقض في الطروحات العلمية.
  • ينتهج طريقة توسيع المثال، أو الاستدلال بالتمثيل الذي غالبا ما يكون قصصيا، إن وجد حادثة عرضها قصصيا، وإن لم يجد اخترعها.
  • يقدّم لمشاهده تلخيصا من عنده هو لطروحات خصومه محضّرا المشاهد ليسمع ردّه وتفنيده لهذه الطروحات.
  • يقدّم تفنيده للطروحات كما لخّصها، وليس للطروحات كما هي بالضرورة.
  • يحيل المشاهد إلى حلقات سابقة ولاحقة ليقول له: إن أي شكوك لديك حول إجابتنا هذه قد أجبنا عليها سابقا، أو سنجيب عليها لاحقا.
  • ما يتطلبه د. إياد في إنتاج المؤسسات العلمية هو ذاته ما يتطلبه جمهوره منه هو أو من مدّعي أنهم يملكون اليقين، وهو أن يعطوه الحقيقة كل الحقيقة في آن معا، لا يحول بين متلقّي الحقيقة وبينها إلا مدّة الشرح والاستيعاب.
  • يغزل د. إياد طروحاته بالقطعة، ليجمّعها معا فيما بعد، مع وعد أنّه سيشكّل منهجا متكاملا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وهذا ما يوحي بكونه أعطى ردّا مفصّلا.
  • كلّما انتهى من غزله قطعة من القطع، عرض للمشاهد عقم نهج مدّعي امتلاك اليقين الآخرين، كالدكتور عدنان إبراهيم أو غيره، بمقطع من كلامهم يخالف قطعة اليقين التي توصل إليها.
  • يجمع القطع التي صاغها لتكون متناسبة، ويخيطها معا ليعطي المشاهد ما يطمئنه من بضاعة “اليقين”التي وعده بها.

العلّة في هذا المنهج

تحت هذا العنوان الفرعيّ سنحاول بيان العلّة في هذا المنهج، بصورة مجملة، وقد نفصل حيث نرى أنه لا بدّ من التفصيل. فكل نقطة من هذه النقاط تحتاج مقالا متكاملا لتبيان الخلل فيها.

إن زبون اليقين زبون غير علميّ بالضرورة، فالعلم قائم على التساؤل، وأي بضاعة ترضي زبون اليقين هي بضاعة غير علمية من الأصل. ولكنّ محاولات تحصين زبون اليقين تفضي إلى تكبّره أكثر، وشعوره أنّه “سبق الردّ على هذه الطروحات” حتى لو لم يسمعها، وحتى لو سمعها ولم يفهمها، وحتى لو سمعها وفهمها ولم يبصر الخلل فيها، فهو أتى بالأصل ولديه غاية يريد أن يحققها، وهي أن يسمع أن أحد من يقيّضهم الله للدين استطاع الردّ على الخصوم.

أكبر عيب يعيبه الدكتور القنيبي على “أنصار التطوّر” _ولو أردت أن أتحدث مثله لقلت: أنصار العلم._ أنهم لا يملكون إجابة يقينية، وهذا أصلا حاضر بطبيعة الحال، ففي العلم بل وفي فلسفة العلم لا مكان لليقين من الأساس. إن أفضل ما يحاوله العلم هو الرجحان، والتأكّد يكون سلبيا أي أننا نتأكّد من كون بعض الأخطاء أخطاء، أو من أن بعض السبل مغلقة، ولا يسعنا أن نتأكّد من كون الصواب صوابا. أي أنّه يتطلب من العلم ما لا يدّعي العلم أنه يقدّمه.

القنيبيّ مسكون بفكرة الهيمنة، والغلبة، وهذا ليس عجيبا  ممّن هو على طريقته، لكنّ العجيب أنّه يدّعي الهيمنة من الخارج، أي أنّه يرى نفسه يتنزّل لنقاش “التطوّريين” على أرضهم، مع أنه في الأصل يقف على أرضية الخبر والنقل، التي لا تحقق بدورها شيئا من مطالب الخلوّ من المغالطات المنطقية، والاتساق، والابتعاد عن التقييف والتكييف. هذا يعني أنّه لو حاكم منهجه بالطريقة التي يحاكم بها فهمه الملتوي لطروحات غيره، لخلع أفكاره ثم ثيابه ثم جلده.

يتسلق القنيبيّ على صخرة العلم من شقوقها، وهذا طالما رأيناه لدى الملحدين الذين يتسلقون على صخرة الدين من شقوقها، فيرون أنفسهم ظاهرين عليه، وهم لا يعرفون إلا جزءًا صغيرا من الصورة الإجمالية، والكثير من نقاط عدم الاتساق التي يتسامح معها المتديّنون بكونها أمورا يمكن حلّها بأكثر من طريقة.

يأخذ القنيبيّ ما تقع عليه يده من أدلّة ضدّ المؤسسات الأكاديمية، التي عندنا وعند غيرنا عليها تحفظّات كثيرة، ليقول: إنّ التزييف في العلم ممكن. وهذا صحيح بالمجمل، لكن مصفوفة العلوم لا تقوم على الدوغما، بل تشوبها الدوغما الإنسانية والسياسية أحيانا، وليس أخلاقيا ولا مقبولا ممن يقوم طرحه كلّه على الدوغما أن يعيب شائبة دوغمائية في العلوم، بل ويأخذها دليلا على زيف كل ما لا يوافق توجّهه هو داخل العلم.

طلب الحقيقة بصورة معلبة هو طلب للباطل، لأن الحقيقة لا تكشف نفسها كاملة للإنسان في وقت واحد. وهذا، أي الحقيقة المعلبة، ما يطلبه القنيبيّ من نظرية التطوّر، فينتقل بين هنا وهناك على خطّ الزمن، مرة يذكر طروحات داروين التي لا تزيد عن كونها نواة زمنية لنظرية التطور، سبقه إليها الجاحظ وكثير من علماء الحضارة العربية، فيجد عيبا تجاوزته النظرية، ليقول ببطلان النظرية كلها. علما أن نظرية التطور أوسع بكثير من داروين، وأنّ فضل كشف الثغرات التي سدّت أو يمكن سدّها في نظرية التطوّر تعود لعلماء يعتقدون بصحّتها.

يبدأ القنيبيّ من العنوان الإعلاميّ المستخدم في مجلّات تيسير العلوم، أو ما تفرضه المعايير الصحفية على المنشورات العلمية، ليبيّن عدم دقة العنوان. أظنّ أن من أتمّ قراءة أي مقال علميّ يعرف أنه لا يمكن استنتاج المحتوى من العنوان بصورة دقيقة. وهو ما يعرفه القنيبيّ حق المعرفة، لكني أراه يراوغ ليرضي زبون اليقين.

أسوأ ما في منهج القنيبي أنّه يجيز لنفسه ولجمهوره قبول التوسع في المثال إلى خارج تقاطعه مع الواقع، وهي مغالطة حجاجية، ويمارس المغالطات المنطقية بكثافة، لاسيّما مغالطة المغالطة، التي تقول: لقد وصلت إلى اعتقادك بمغالطة فهو بالتأكيد خاطئ. والأنكى أنّ منهجه مليء بمغالطات مماثلة لما يعيبه على خصومه، الذين _بالمناسبة_ لا يعرفون عنه، وإنّما هم خصومه لأنه وضع نفسه وجمهوره في موضع مخاصمتهم. ويا ليته أتقن المغالطات من الأصل، فالاحتجاج بالأغلبية ليس دائما مغالطة كما يصوّر هو. لكنّ جمهوره بعيد عن محاكمة قوله بالصورة التي يحاكم هو بها أقوال خصومه.

المنهج العلميّ يبنى بصورة شمولية، ولا يبنى بطريقة القص واللصق التي يعتمدها القنيبي.

أخيرا، إنّني أدّعي _غير كاذب_ أن القنيبيّ لو كان يظنّ مجرد ظنّ أنّه قدّم منتجا علميا محترما في ردّه على خصومه وفي “حَلّة اليقطين” الخاصة به، للجأ للتدوين، وقدّم بحثا علميا حقيقيا يمكن نقده، ومراجعته من قبل الزملاء المكافئين، ولنال به شهرة لم تتحقق لغيره. فهو سيحطّم أهمّ نظرية علميّة حتى الآن، وهي نظرية التطوّر، التي تتكوّن من شبكة من الأدلة والتفسيرات والقمم المعرفية النامية. النظرية التي أثمرت وتثمر علاجات صيدلانية، وطبيّة، وتطويرات تقنية، تتحلّى بثباتية تؤهلها لتحقيق الكفاية العلمية. لكنّه يعلم أنّ بضاعته مزجاة، ولا يطلبها إلّا زبون اليقين، أو من جعل الدين خصما له، أقصد هنا طرفي الجدال العقيم حول منطقة غيبية لا سبيل لقهر العقول بقبول ما فيها أو رفضه.

خاتمة

إمكانية الجدال في ظلّ الحكم المخالف لشرع القنيبيّ تسمح له أن يجادل، ويرفع شرائطه التي تدّعي ما ليس فيها، وتوفّر لزبائن اليقين ما يريدون من رديء البضاعة “العلمية”، لكنّ الجماعات التي أيّدها القنيبيّ، والتي ما زال يرفدها بالدوغمائيين من مغلقي العقول على يقين يزعمون، لا تقبل أن تناقش في حرف مما تمليه على الناس قهرا.

مشكلة مدّعي الحقيقة المطلقة هي هي، لا تتغيّر في كل عصر، وهي أنهم يجيزون لأنفسهم ما لا يجيزون لغيرهم. التناقضات في ما يعدّه القنيبي حقيقة مطلقة مساحة للتأويل ورحمة للناس، وخلاف “علمائهم” سعة للعباد، ومساوئ المؤسسة الفقهية لا يجب أن تزهّدنا بمنتجاتها، والمغالطات المنطقية التي تجدها في نهج القنيبي أنّا أدرت وجهك هي علم إلهي أنعم الله به عليهم لا يقبل النقاش. لكن عدم الاتساق الذي لا يزال العلم يسدّه، ويتسبب بفتق مساحات جديدة له، هو دليل على أن العلم باطل، والخلاف بين العلماء الطبيعين الذي يؤدي للجدل والتطوّر دليل على تزييف العلم، ومساوئ الأكاديميا تزهّد بمنتجاتها، والمغالطات المنطقية بل وما يناقض ما نبصره بعيوننا هي منهج علماء أهل السنّة، ومن يرفضه يستحقّ القتل.

أستطيع باستخدام منهج القنيبي نفسه أن أقدّم برنامجا يقنع زبائن اليقين بأن الأرض مسطّحة. للعلم أصحاب فكرة الأرض المسطحة ينتهجون نهج القنيبي نفسه. (اتضح لي بعد كتابة المقال أن متابعيه طالبوه بالفعل بسلسلة تثبت تسطّح الأرض، وكان ردّه أن القرآن والسنة وأقوال العلماء مع كرويتها.)

بعد هذا، هل يناقَش القنيبيّ حقّا؟ أم أنّ النهج الليبراليّ الذي يسمح له بتضليل العقول، إذ يمنحه حرية التعبير، والذي يدعم المقاتلين الذين يؤيدهم هو في بلادنا، هو نهج مذنب مخزٍ؟ الأصل كما أدّعي أن يكون في القانون ما يسمح بمقاضاة ناشري الخرافات، ومضللي الناس، وأن يقدّموا أدلّتهم لدى القضاة، ويكلّفوا _إذا ثبت تضليلهم_ بدفع لا أجور المحامين فقط، بل وثمن الوقت الذي يستغرقه من يتصدّى للردّ عليهم، بل وثمن الوقت الذي يلزم للاطلاع على منتجاتهم الرديئة، وفوق كل هذا أن يجبروا على تعويض الناس عن تضليلهم.

من يتابع القنيبيّ من زبائنه سيظنّ نفسه خاتما للعلوم، وأنّه عرف كيف يتطوّر العلم، وعرف حتى ما لا سبيل _بصورة علمية_ إليه من خبر الغيب، وهذا لعمري قنبلة موقوتة تكاد تنفجر فينا، كما انفجرت سابقاتها من زبائن اليقين المطلق.