من الاتحادات الطلابيّة إلى استفتاءات وسائل التواصل

ينقسم مراقبو المسيرة التاريخية للتعليم إلى قسمين؛ قسم يتغنّى بنوعية التعليم قديما، وقسم يلعن قسوته. ومن المُلاحظ ميل منحنى التعليم عالميا إلى ما يمكن تسميته “دمقرطة التعليم”، بمعنى جعله أكثر اعتبارا لميل الطلبة، فقد يخطط الطلبة وحداتهم الدراسية، وقد يبنون منهاجهم، بإشراف المعلم المدرَّب. وربّما وقعنا في مغالطة التعميم المتسرّع إذا نظرنا إلى بعض مظاهر تحديث التعليم في الأردن، واستنتجنا أنّ ما يحيط بها من ظروف وممارسات ينتمي إلى المنحنى العالميّ، بمعنى أنّه يشاركه التوجّه، فثمّة خصوصيات كثيرة لمسيرة التعليم في بلادنا، وقد يكون وجود أحد مظاهر التطور في سياق غير سياقه الطبيعيّ دليلا على التخلّف.

(للقرّاء من خارج الأردن: هذا المقال يتناول حادثة إلغاء أسبوعين من دوام المدارس، بعد استفتاء قام به وزير التربية على صفحته في فيسبوك، شارك به عدد من المصوتين، لو كانوا بالفعل طلبة فهم يمثلون نسبة ضئيلة من عديد الطلبة في الأردن.)

قبل أن نتناول دمقرطة التعليم في بلادنا، دعونا ننعم النظر في الديموقراطية ذاتها، إذ تشيع اليوم مصطلحات في عالم السياسة تصف بعض أمراض الديموقراطية الشائعة، مثل: الشعبوية، والاستقطاب. شيوع المصطلحات وشيوع مصاديقها يعود إلى معضلة محورية في فكرة الديموقراطية، فهل الفيصل في عملية صنع القرار هو رغبة الجماهير، أم مصالحها؟ وقد أفرزت فكرة التصويت أو الاقتراع المجرّد، وهو بالمناسبة أداة ليست وحيدة من صندوق عدّة كبير في العملية الديموقراطية، ممارسات تطعن فكرة الديموقراطية في مقتل.

قد لا تكون الجماهير واعية بمصالحها، وهذا ما يشير لحدوثه كثير من المفكّرين الديموقراطيين، أي أنها قد تكون ضحية البروباغندا أو التضليل الإعلامي، فتختار قرارات ضدّ مصالحها. لذلك لا تكتفي الديموقراطيات الناجحة بعملية التصويت وحدها. لهذا أيضا ثمّة لجنة تحكيم في برامج المنافسات التي تعتمد التصويت، إذ تضمن غربلة الخيارات إلى مجموعة مقبولة، ثم تترك للتصويت الجماهيريّ هامشا، ورغم هذا يعترض كثير من الخبراء على مخرجاتها، التي يصفونها بكونها متدنية النوعية.

الآن، لو تخيّلنا أننا نقيم عملية تصويت للطلبة حول الذهاب إلى المدرسة من عدمه، أزعم أن خيار أغلبية الطلبة سيكون: لا نريد المدارس من الأصل. فهل هذا الخيار ممكن؟ وهل يصبّ في مصلحة الوطن؟ وهل يصب في مصلحة الطلبة أنفسهم؟ علما بأنّ السلطة التي تسأل مثل هذا السؤال تعرف مسبقا رأي الأغلبية، ولهذا فإن هذا القرار _لو صدر_ لن يكون ضمن الممارسات الديموقراطية حُكما، كونه يخرج عن عرف ديموقراطيّ أساسيّ وهو وعي المصوّتين بأبعاد القضية التي يجري عليها التصويت.

ربّما لا يوجد معلّم واحد في هذه العالم يجهل أنه يمكنه كسب قلوب الطلبة بتسهيل المواد، وتقليل المطلوبات، والإغداق بالدرجات. لكنّ المخلصين منهم لا يسمح لهم ضميرهم أن يطلبوا رضا الطلبة بهذه الأساليب الملتوية، حتى أنّ كثيرا من أصحاب الضمائر الرخوة لا يقبلون ذلك بسبب وجود رقابة إداريّة تمنعه، لأنه ليس في صالح الطلبة.

أستاذ الرياضيات الذي “علّمني” في الصف التاسع كان محبوبا عند الطلبة، وربما أحببته خلال الصف التاسع، لكنّي بدأت بلعنه بمجرّد أن صدمت بتدنّي مستواي في الرياضيات في الصف العاشر. نتج عن صدمتي أنني قررت أن أدرس ذاتيا رياضيات التاسع للمرّة الأولى في الصف الحادي عشر. هذا الشخص كان يكسب قلوب طلبته بالنكات وإزجاء وقت الحصّة في أي شيء آخر غير التعلّم.

يجب أن يكون جليا أنني لا أنادي بتصعيب الموادّ على الطلبة، أو عدم وضع ميولهم موضع الاعتبار، إلّا أنّ ذلك يجب أن يكون في مكانه الصحيح، وهو في مجال سهولة المواد أن يحدث تعليم المفاهيم والمهارات بصورة حقيقية، ويكون الطلبة واعين بتعلّمهم، وبطرق قياسه، وقادرين على نقل المفاهيم إلى مجالات أخرى، وهكذا فهم لن يشتكوا من صعوبة الاختبارات. أمّا في مجال وضع ميولهم موضع الاعتبار أن يكون الطلبة عارفين بأهداف التعلّم وشروطه، وسبب وجود النتاجات، وماهيّتها، وأهمّيّتها في حياتهم، وهكذا فهم لن يختاروا قرارات تضرّ بمصالحهم.

كثير من التربويين والناشطين في مجال التعليم يعزون تردّي وضع التعليم في أنحاء كثيرة من العالم إلى تحوّل الطالب إلى زبون في سوق رأسمالية، حيث رغبة الزبون عيار النجاح الوحيد. ويرون أنّ الميزة التي تمتع بها التعليم سابقا هي المجّانية، إذ الطالب هو المطالب بتلبية شروط المؤسسة التعليمية لا العكس. حتى في أساليب التعليم الحديثة فإن أسلوب “عباءة الخبير” كما طوّرته “دورثي هيثكوت” يقوم على جعل الطلبة لجنة مفوَّضين يلبون خدمة لزبون يخترعه المعلّم في جوّ قصصيّ. بل وإن أوّل خطوة قامت بها فنلندا التي يتردد اسمها في كل حديث حول إصلاح التعليم كانت إلغاء المدارس الخاصة، وإعادة المجّانية إلى التعليم.

ثمّ إن أي قرار تربويّ يجب أن يكون متسقا مع قوانين التربية، أو أن يعاد النظر في قوانين التربية لتكون متسقة معه. وهذا شرط قانونيّ، أي أنّه فوق الرغبات الجماهيرية اللحظية. فوق ذلك، فإنّه على السلطة التنفيذية أن تراعي توقيت صدور القرار، وظروف المعنيين به لدى صدوره.

في ضوء ذلك كله، فلنحلّل قرار وزارة التربية بحذف قرابة أسبوعين من دوام المدارس، علما بأن هذا القرار صدر في الفصل الثاني أي بعد أن وضع المعلّمون خططهم ونفذوا حظّا كبيرا منها، أي أنهم أمام نقص هذا القدر من الأيام الدراسية يواجهون خيارا بتلفيق جزء من خططهم أو حذف جزء من المطلوبات. ولنحلّل كون القرار جاء على خلفية تصويت أقيم على وسائل التواصل الاجتماعيّ بسؤال موجّه للطلبة، حيث لا ضمانة أن المشاركين فيه كانوا بالفعل طلبة، ولا ضمانة أن المعنيين بالقرار وصلهم الاستفتاء، في ظلّ رجحان أن الطلبة لا يعون أبعاد القرار وأثره على العملية التعليمية. وسأكتفي من التحليل بلائحة من الأسئلة، أترك إجابتها للقارئ:

  • لماذا لا تكون خطّة إدارة تغيّر إيقاع الحياة في رمضان معروفة منذ بداية العام الدراسي؟
  • لماذا نتفاجأ برمضان كل عام؟
  • هل أصلحت القرارات الشعبوية التي اتخذت في عهد الرزاز التعليم أم أضرّت به؟
  • لماذا يختار وزير التربية أن يسأل الطلبة على مواقع التواصل، بدل أن يجري الاستفتاء في المدارس التي تقع تحت نفوذه؟
  • هل ألهم صعود الرزاز في سلّم السلطة غيره من الوزراء؟
  • هل أصدرت الوزارة القرار بصورة محكمة مفصّلة تراعي ظروف الجميع؟
  • هل درست الوزارة أثر القرار على مدارس المملكة جميعها؟ أعني بما فيها تلك التي وضعت خطّتها بناء على خطّة التربية، لكنها غيّرت أوقات العطلات لأسباب مختلفة، بحيث أنّها إذا أنهت دوامها في موعد الوزارة لن تفي نصاب السنة الدراسية المعتمدة في قانون التربية.
  • هل القرار في حكوماتنا يأخذه الوزير بعيدا عن الخبراء واللجان المختصة؟
  • هل صدر قرار قانونيّ بإجراء الاستفتاء بهذه الطريقة أم هو اجتهاد شخصيّ ارتجاليّ من الوزير؟
  • كيف يرتبط هذا القرار وطريقة صدوره بالأحداث المؤسفة التي هاجم الناس إثرها وزارة التربية وقت فيضانات زرقاء ماعين؟
  • كيف يجتمع في البلد ذاته أن يسأل طلبة المدارس عن موعد العطلة، وتدار الجامعات بقبضة ديكتاتورية حديدية؟
  • في ظلّ التضييق على اتحادات الطلبة والمجالس الطلابية بحجّة تصدّيها لأمور سياسية “بعيدة عن التعليم”، لماذا تستبعد هذه الكيانات الطلابية من المساهمة في صناعة هذه القرارات؟
  • هل عالجت الوزارة الاضطراب الذي سيحدث في خطط المعلّمين بسبب نقص الأيام الدراسية؟
  • كيف ستراقب الوزارة طريقة تعامل المدارس مع هذا الاضطراب؟
  • ما هو مستقبل التعليم في حالة تواصل القرارات الشعبوية الارتجالية؟
  • إذا كان خبراء التربية الموجودون في الوزارة مستبعدين من عملية صناعة القرار التربوي فعلامَ يتقاضون رواتبهم؟

في الحقيقة ثمة الكثير من الأسئلة التي أخجل أن أسألها حول هذا القرار، ولكني أكتفي بذكاء القارئ، وبالأسئلة التي ستخلقها الإجابات عن هذه الأسئلة في ذهنه.