كثير منا التزم بحمية غذائية مدّة من الزمن، إما بسبب حساسية أو سمنة أو نقص في مادة معينة أو غيرها من الأسباب. لكن ماذا عن تدفق المعلومات من أخبار وأفكار وقصص إلى أذهاننا؟ إذا كانت الحمية الغذائية ضرورية في أوقات محددة لظروف صحية، فهل نستطيع أن نفكر في ظروف يكون لزاما علينا فيها أن نضع حمية لتدفق المعلومات إلى أذهاننا؟ تخيّل معي إنسانا يلتهم كل ما حوله، كيف ستكون صحّته؟ هذه حال عقولنا.
في عصور سالفة كان الحصول على المعلومة صعبا، أتكلم هنا عن المعلومات بالمطلق أي حتى الخاطئة منها، ولذلك كان من المنطقيّ أن نتربّص بالمعلومة، وندخلها إلى أذهاننا بمجرد أن تلوح لنا، سواء كان ذلك عن طريق حديث من صديق، أو خبر على إذاعة، أو سوى ذلك. لكن اليوم مع عصر الاتصال الفائق فالأمر مختلف، والمعلومات تتدفق من كل حدب وصوب، مما يفرض علينا أن ننتهج سلوكا مختلفا.
في الحقيقة، ما يزال أغلب الناس واقعين ضحيّة السلوك المناسب لظرف سابق، فيلتهمون كل ما حولهم من معلومات دون أدنى انتقائية. كثيرا ما أزور أماكن يكون فيها التلفاز مفتوحا على إحدى القنوات كخلفية للحياة فيها، والموجودون في تلك المساحة مجبرون على تلقي هذا التدفق من المعلومات التي لا تتوقف.
إذا كنا نريد أن نكون منتجين لما هو جيد من أفكار وفنون، وموصلين للأخبار التي يترك انتشارها أثرا إيجابيا، فعلينا أن نسلك سلوكا مشابها لسلوك النحل. النحل يدور ينتقي غذاءه جيدا، وبهذا يتمكن من صناعة العسل. تخيّل لو كان النحل لا ينتقي غذاءه، ماذا سيكون شكل مخرجاته!
الانتقائية تفرض نفسها على كل من يريد أن يكون في حال أفضل، أكان ذلك شعوريا أو إنتاجيا. نحن في عصر مليء بالملهيات والتشتيت. كل ما حولنا يرسل إلينا تدفقا متداخلا لا ينقطع من المعلومات: أخبار، موسيقى، مسلسلات، أفكار، قصص، أحاديث، منشورات على وسائل التواصل.
لنأخذ السينما مثالا، لقد كان ممكنا في عصر سابق أن ترى محبا للسينما شاهد كل الأفلام الموجودة على الساحة، أما اليوم فعدد ساعات الأفلام التي تنتج كل يوم أكبر من ساعات اليوم نفسه بكثير، أي أنك تحتاج أكثر من شهر لتطلع على الأفلام التي تنتج في يوم واحد. وهذا يعني أننا مجبرون على إعادة النظر في طريقة اطلاعنا على الأفلام. ما ينطبق على الأفلام ينطبق على غيرها.
الأخبار قصة لوحدها، فنحن نقع ضحية أمر آخر غير استهلاك الوقت في الاطلاع على الأخبار، وهو السلبية العبثية. وسائل الإعلام تبث الأخبار السلبية فقط. مثلا: من الطبيعي أن ترى خبرا حول بناية انهارت بسبب ما، لكنك لن تسمع عن بناية أخرى صمدت أمام ظرف آخر. والأخبار تقدم المشاكل دون الحلول.
قد تظن أن الأخبار الجيدة لها مكان آخر في القنوات، مثل البرامج الحوارية مثلا، لكن الذي يجب أن تعرفه هو أن الإعلام الخاص الذي يسيطر على الفضاء يتقاضى مالا عن أي ذكر لمنجز إيجابيّ. في قناة خاصة أردنية ثمن الخبر الإعلانيّ 8000 دينار أردني للدقيقة، أي ما يقارب دخل فرد أردني لمدة سنة. أما في البرنامج الحواريّ فالتقرير ثمنه 1500 دينار. أمّا ذكر شيء سلبيّ فهو خدمة مجانيّة، إذ إن ذلك يضفي مصداقية للقناة.
السلبية التي تلفّ الفضاء العام لها سببها إذًا. خبر تطبيعيّ سيلقى رواجا بين محاربي التطبيع وبين مؤيديه، وقد تذكره القنوات التي لا تصرح بتوجهها على أنه خبر إعلامي بحت، لكن خبرا يتعلق بنجاح ما لمحاربي التطبيع سيشاركه فقط الفاعلون من دعاة مناهضة التطبيع. وهكذا دواليك.
لهذا نشأت صحافة الحلول، أو ما يمكن أن نسميه الصحافة التي تتحرك باتجاه الحلول، أو الصحافة البطيئة، وهي التي تخبرك عن تقدم ما في سبيل حل مشكلة، ثم تعلمك عن المشكلة وأبعادها. لكن هذه الصحافة ما تزال مقتصرة على المنظمات أو المبادرات الآتية من مؤسسات صحفية تسلك في برامجها السلوك السلبيّ معظم الأيام، وتخصص وقتا لبث المواد الصحفية البطيئة.
شيوع النمط الإعلامي السلبي له سبب اجتماعي- نفسي، وليس نتيجة مؤامرة كونية ضد نفسية الإنسان. السبب هو أننا معدّين بيولوجيا للانتباه للأخطار، ولذلك فالخبر السلبيّ يلقى متابعة أعلى. إلا أن التجارب تشير إلى أن الصحافة البطيئة أقدر على الاحتفاظ بجمهورها، فالمتابعون يعودون إلى مصدر المواد البطيئة ويشاركونها أكثر من مصادر الأخبار السلبية السريعة.
ذكر السلبيات له إيجابياته، ويجب ألا نغفلها، مع ذلك، علينا الحذر من الإفراط فيها، والغرق في السلبية، لأنها تدمّر فاعلية الفرد، وتؤثر سلبا على الاجتماع. فالفرد قد يصل لمرحلة أن يغلق الباب في وجه الأخبار، ويكف عن متابعة الشأن العام، ما يعني مفارقته للمجتمع مع أنه يعيش بينهم.
الدخول في حمية ذهنية، أي انتقاء ما يطلع عليه المرء من معلومات، أمر له فوائد تتجاوز السلامة النفسية، والشعور الجيد. يشير علم الأعصاب إلى أن القنوات العصبية التي كانت نشطة مؤخرا أكثر قابلية للعمل من غيرها، وهذا يعني أن الأنماط التي استخدمتها مؤخرا في معالجة خبر سلبيّ ستكون أكثر احتمالية للعمل في وقت مواجهة فكرة جديدة. ولذلك فالانتقائية واجبة.
إذا كانت حمية الطعام تساعدك على تجاوز صعوبات جسدية وذهنية، فحمية المعلومات ستساعدك في المجالين. أثرها على الذهن واضح، أما أثرها على البدن، فهو متعلق بأثر الصحة النفسية على السلوك الجسدي والجسد عموما.
ابدأ حمية المعلومات اليوم، ولا تخض مع الناس في كل حديث عام.