ويل لـ”فاضي” الفيسبوك من قضاة الأرض والسماء

ربما يكون الاقتباس “ويل لقاضي الأرض من قاضي السماء” هو أكثر جملة قرأتها خلال الأيام التي خلت على وسائل التواصل الاجتماعي. كان مصحوبا عادة بصورة أحد المدانين بقتل النائب المصري العام هشام بركات في تفجير في تقاطع شارع مصطفى مختار وشارع سلمان الفارسي في القاهرة.

إذا كان ثمة جملة تنافسها في تكرارية النشر، فهي اقتباس من شهادة قديمة لمحمود الأحمدي بعد أن واجهه القاضي بكونه اعترف بجريمته، فقال: “هات صاعق كهربائي وأنا أخلي أي حد يعترف إنه قتل السادات” أو كما صاغها. مصحوبة بادّعائه أنّهم تعرضوا لصعقات كهربائية تكفي مصر عشرين سنة من الطاقة.

لقد امتلكت حسابات على وسائل التواصل الاجتماعي منذ بدايتها، وقرّ في نفسي أنّ الشائع من الآراء إنّما يشيع لدوافع عاطفية. لقد كانت “الحاناتية” أو “المضافاتية” ما يسمى بالإنجليزية “بوب كالتشر” كثقافة محصورة في مجالس مغلقة، وأتت وسائل التواصل لتجعلها تصل كل بيت. اليوم الشائع يشيع لدوافع عاطفية أيضا، وبرواية لا تصمد أمام أي عقل متسائل. كنا نرى شيوع قصص تفتقر لأي دليل، لكنها على الأقل متسقة، أي أنها خالية من التناقض. لكن روايات “المضافاتية” في وسائل التواصل اليوم تفتقر لأي اتساق. الأنكى أنها لا تحتاجه، لقيامها على الاقتباس القصير الذي يكون كفيلا بإعلان الاصطفاف، مع تهديد بالتشغيب على كل من يعترض.

قصة التعاطف مع المدانين في قضية النائب العام هشام بركات، الذين نفّذ فيهم حكم الإعدام، مثال جيد على الهراء الذي تلوكه الجماهير. الجماهير في وسائل التواصل الاجتماعي يهمّها تصدير صورة عن نفسها تجعلها أقرب للمجموع، فإذا غلب على ظنها أن الأغلبية في جهة، دفعت بتأثير من حولها إلى تبني الآراء التي تجعلها في صف “الأغلبية”، أو على الأقل لا تجعلها تصطفّ ضدّ “الأغلبية”.

الماكينة الإعلامية للإخوان يروقها ذلك، وتتقن استخدامه جيدا، منذ ما قبل وسائل التواصل. في الحقيقة جماعات “الإسلام السياسي” كلها تتقن ذلك، بل إنها في الأصل تقوم عليه. ولو أنها في الأصل كانت تقدّم صورة متسقة عن العالم، واليوم هي لا تبالي بالاتساق، لأنه لا أحد من جماهيرها يبالي به. الصورة المتسقة التي كانت تقدّمها كانت تشكو من مشكلة وحيدة، وهي أنها لا تمتّ بصلة للواقع.

كان كافيا لكثير ممن أتابعهم على وسائل التواصل الاجتماعي أن يقرؤوا اقتباسا لشاب يدّعي المظلومية مرفقا بصورة للشاب نفسه وهو يرتدي ثيابا تشبه ما يرتدونه، لكي يشاركوا في حفلة اللطم الجماعي، التي تتهم القضاء المصري بالتوحّش والكيديّة. يساندهم في ذلك الصورة التي يقدّمها الإعلام المصري القائم على “الردح” لمؤسسات الدولة هناك، بالإضافة إلى تصريحات الرئيس المصري، ومشكلتهم مع الخط السياسي العام لمصر، التي قبلت بإظهار التبعيّة للسعودية، رغم أنها _حسب قراءتي_ تبعية غير حقيقية، والأهم من ذلك كلّه التطبيع المصري مع العدوّ الصهيونيّ.

بحث بسيط على شبكة الإنترنت كفيل بصفع كل متضامن مع المدانين. على الشبكة نجد صورا للمتهمين وهم يرتدون بزّات عسكرية، ويحملون أسلحة، وبعضهم يرتدي أحزمة بصورة مطابقة للإرهابيّ في مخيالنا. نجد أيضا على الشبكة تحقيقا مطوّلا نشره موقع “مدى مصر” المعارض للسياسة المصرية، ولو كانت معارضته على قاعدة مختلفة عن مناهضة الإخوان له.

في التحقيق المنشور على “مدى مصر” نرى رواية تفصيلية للتخطيط للجريمة، وتنفيذها مع جرائم أخرى. نرى أيضا مسيرة التحقيق الطويلة في اكتشاف المجموعة الإرهابية والتفاصيل الخاصة بعملهم. التفاصيل الموجودة عن المجموعة وعن مسيرة المحققين في كشفها تفاصيل تحتاج روائيا مذهلا لاختلاقها، ولا يمكن أن يتفق عليها مجموعة من أفراد معزولين عن بعضهم، لاسيّما إن كانوا تحت التعذيب. بالمناسبة لا توجد دولة، ديموقراطية كانت أم ديكتاتورية، في العالم كلّه لا تنتهج أجهزتها التعذيب لانتزاع الحقائق من مجموعات عنفية تنتهج التفجير، ولكنها تقارن الاعترافات ببعضها، وبالوقائع المعروفة لديهم التي تظل بعيدة عن عيون المتهمين، حتى تصل إلى رواية ممكنة متسقة. فإذا اتفق أفراد المجموعة على مثل هذه التفاصيل الدقيقة، فهي حقيقة بعيدة عن الشك.

تعرض هذه التفاصيل على القضاة، ويستمعون لمرافعات الادعاء والدفاع، فيخرجون بحكمهم. ثم تذهب القضية للاستئناف، فيحدث ما حدث أمام القضاء. ثم إلى التمييز فيحدث مثله. هذا يحتاج تسعة قضاة. والقضاة التسعة أجمعوا على إدانة المدانين التسعة. علما أن في الخلية أشخاصا آخرين أخذوا أحكاما دون الإعدام، ولو كان من هؤلاء التسعة من يستحق عقوبة أدنى من الإعدام ضمن القانون المصري لنالها.

مزاج الطعن في القضاء المصري بدأ بعد قضية تيران وصنافير، وهو بحق تعرّض لضغوط فيها. لكن لننتبه إلى أنّ قضية تيران وصنافير بما هي من قضية مركزية للسلطة التنفيذية، لم تكن موضع إجماع لدى القضاة، فلو كانت الدولة المصرية قادرة على جعل القضاء مجمعا على شيء فهو بالتأكيد سيكون قضية تيران وصنافير.

بعد كل هذا، فالمجموعة، بما اطلعت عليه، مدانة بجرائم نكراء، وهي أولا: تشكيل جماعة إرهابية. وثانيا: تنفيذ عمليات تفجير. وثالثا: قتل النائب العام هشام بركات. ومع ذلك، دعني أقول: إنني لا أنكر كونهم ضحايا. فهم ضحايا تناقض ما يقرؤونه في كتب التراث في مدارسهم وجماعاتهم، وضحايا تناقضات داخلية في المجتمع، وضحايا تناقضات داخلية أخرى لدى الدولة، وضحايا ماكنة إعلامية معادية، وضحايا جماعتهم الإرهابية الكبرى بفتواها وأفكارها، وضحايا سيد قطب، وضحايا عقم أجهزة الدولة منذ أيام الملكية حتى أيام السيسي، مع تفاوت درجة الجريمة، وضحايا غبائهم وتكبّرهم أيضا.

أمّا أن يتقيأ المجتمع المزيد من التناقضات على وسائل التواصل، وتتقيأ الدولة خطابا إعلاميا فاشلا، وتتقيأ القنوات الخاصة ما لديها من قذارة، فهذا يساعد على خلق مزيد من الضحايا. بعضهم أعلن اصطفافا غير حقيقيّ مع القتلة، وبعضهم أعلن اصطفافا غير حقيقيّ مع القضاء. قلة فقط سكتت عمّا لم تكن تعلمه، وتحدّثت بما تعلمه.

كل ما سبق يمكن فهمه _أقول فهمه لا قبوله_ إلا أن الغريب حقّا هو أن ينادي الإخوانيّ أو ذو الميول الإسلاموية بتجريم عقوبة الإعدام، وينادي أنصار القانون الحديث بعقوبة الصائل! لكنّ هذا أيضا يمكن فهمه في إطار أن كلا منهم يحاول إقامة الحجة على الآخر فيلجأ لمعجم الآخر، ومنظومته الفكرية، ليثبت وجهة نظره.