(ملاحظة: سأضع علامات اقتباس حول بعض المصطلحات، لأن ذكرها يأتي من باب الضرورة، دون تبنيها أو نفيها، فهي ليست موضع نقاش هنا.)
لنضع آرائنا المتعددة والمختلفة بالضرورة حول نظام صدّام حسين جانبا، ولنتأمّل المحاكمات التي انعقدت في قضايا الدجيل والأنفال وحلبجة وغيرها. المحاكمات بثّت على مدى أشهر على التلفاز، وكان أكثرها علنيّا، باستثناء قطع الصوت هنا وتغييره هناك.
في الحقيقة، ثمة مشاهد مؤلمة مخزية جدّا يسردها علينا الشهود، وثمة مشاهد لا تقل إيلاما ولا خزيا كنا نراها تحدث داخل المحكمة. يقف عضو القيادة القطرية س أو الموظف ص في الدائرة الفلانية، ويشرح مهماته وصلاحياته والمعلومات الواردة إليها صادقا غير مكذّب، فنكاد نجزم أنه، إن كان له جريمة، فجريمته هي كونه جزءا من النظام الذي ارتكبت هذه “الجرائم” في عهده. ثم يعامل بكل جلافة وكأنه مدان، مع كون المتهم بريئا حتى تثبت إدانته، وفي النهاية يحاسب ويصدر في حقه حكم يناسب من اشترك فعلا في “الجرائم” قولا وفعلا، مع عجز الادعاء عن الإتيان بوثيقة واحدة تدينه.
لو كنتُ عراقيا غير معنيّ بالسياسة، وغير مثقف سياسيا، أو معنيا بالسياسة لكني ببساطة ذو ذكاء متدنٍّ أو جبان، وطلبتني حكومة بلدي أن أقوم بمهمات وظيفية إجرائية، مع التسليم بالصورة التي عرضتها المحكمة للنظام العراقي بكونه يبطش بمن لا يتعاون معه، فقبلت التعاون مع حكومة بلدي لسبب أو لآخر، فهل من المنطق أن أدان بجرائم تقول المحكمة: إن الذي ارتكبها شخص آخر، وجهاز آخر، خارج نطاق نفوذي!
نحن نعلم أن فلانا وفلانا من الوزراء والموظفين في الحكومات العربية مجرد قطع ديكور، وأنه لا يملك نفوذا حقيقيا، فهل هو مسؤول بالفعل عن الذي يحدث في بلده؟ وإذا كان مدانا، فهل إدانته تتجاوز جرم قبوله بالمنصب الذي عرض عليه؟
حبذا لو جلس الموظفون الديكور أمام الشاشة لساعات، وشاهدوا المحاكمات المتتالية لأعضاء حزب البعث العراقي، وكيف انتهوا إلى الأحكام المغلظة، وأكثرهم يقول: “أنا أبرأ إلى الله والشعب العراقي من هذا الذي سمعته ورأيته، وأشهد الله أنني لم أكن أعلم عنه، وأنني أراه غير إنسانيّ وغير شريف.” وكيف أدانوا تلك “الجرائم” بأغلظ العبارات، ثم لم يشفع لهم جهلهم بـ”فظائع” النظام الذي كانوا جزءا منه.
لكنني أجزم أن ما شاهده أغلب الناس من هذه المحاكمات هو مقتطفات يوتيوبية بعناوين رنّانة. وأن المحاكمات لعبت دورا في تحبيب الناس بأعضاء حزب البعث العراقي، في حملة ترويجية لها أهدافها التي تجاوز حدود العراق، وتجاوز الحقبة التي حدثت فيها.