كثر في الآونة الأخيرة استخدام مصطلح الشعبوية، وتخطى دائرة النقد السياسيّ المتخصص إلى الدوائر الشعبية، بفعل توظيفه في وسائل الإعلام ذات الجمهور العريض. عادة ما يترافق انتشار مصطلح ما مع انتشار مصداقه (أي ما يصدق عليه المصطلح)، وهذا يدفع إلى استنتاج أن الشعبوية في صعود، فما مدى صحة هذا الاستنتاج؟ وهل بالفعل كانت الشعبوية ماردا نائما، استيقظ فجأة، وبدأ بتخريب الحياة السياسية؟
تزامن انتشار مصطلح الشعبوية بطريقة مذمومة مع نجاحات حملة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وقد استخدمها خصومه ضدّه، مفسّرين نجاحاته بكونه شعبويا، أو مصدّرا للخطاب الشعبويّ. كان ثمة مصطلح قريب في مصداقه من الشعبوية، وهو “الحاناتية” أو الـ “بوب كالتشر”، يرمز إلى الخطاب المتداول في الحانات، أو المقاهي والمضافات في حالتنا نحن المجتمع العربي، ويمكن أن نسميه “المضافاتية” أيضا. ربما قرأتم من قبل على هذه المدونة مقالة “بول الضبع| من المضافة إلى السياسة“.
الفرق بين الحاناتية أو المضافاتية من جهة والشعبوية من جهة أخرى فرق دقيق، فكلاهما يتعلّق بما يتداوله الناس دون تعمّق وتحقّق، وما يمكن صياغته بطريقة تضمن انتقاله بسلاسة على الألسن، أي باستخدام الوسيط السمعيّ كحديث اعتياديّ. لكنّ الشعبوية تتميز عن المضافاتية بقدرتها على الفعل السياسيّ، وهذا يتطلب أمرين: الأول- سعة انتشار أكبر. الثاني- وجود جماعة سياسية تستثمر في هذه السرديات التي يتمّ تداولها كالحديث الاعتياديّ بين الناس، وتحوّلها إلى فعل سياسيّ.
إذن، يمكننا رؤية الشعبوية على أنها نسخة مطورة من المضافاتية، أكثر انتشارا، وتقع في دائرة التوظيف السياسيّ. إذا رأينا ذلك، فإن لنا أن نسأل: كيف تطورت المضافاتية التي كانت محببة مقبولة إلى صورتها الجديدة المرعبة التي تهدد استقرار المجتمعات؟
لا أظنّ أننا يمكن لنا توفير جواب عن هذا السؤال دون الحديث عن البيانات الضخمة “بيغ داتا”، ووسائل التواصل الاجتماعيّ، وكلاهما حاضر في خوارزميات برمجيات وسائل التواصل الاجتماعيّ. خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعيّ تقوم برصد تحليليّ لميول الناس، وما يشيع بينهم من تفسيرات وسرديات ومطالب، ولسلوكاتهم أيضا، لتحوّل هذه البيانات الضخمة إلى معلومات يمكن استغلالها. من ثمّ تبيع هذه المعلومات للمعلنين، سواء كانوا تجّارا أو أحزابا سياسية. يمكن الاطلاع على سلبيات هذه الخوارزميات في مقال سابق منشور هنا: يسألونك عن وسائل التواصل.
هكذا نستطيع أن نحصر أسباب صعود الشعبوية في أمرين: وجود المضافاتية أو الحاناتية، اختيار الخوارزميات المعيبة كطريقة عمل في وسائل التواصل الاجتماعيّ. إذا كان اختيار هذه الخوارزميات أمرا أمريكيّا محضا، فشيوع المضافاتية لم يحدث بفعل أمريكا وحدها، ولا حتى حلف الأطلنطي وحده. نعم، تعاملت أمريكا مع الـ “بوب كالتشر” كإحدى وسائل القوى الناعمة، ومن وراء أمريكا في هذا الاتحاد الأوروبيّ أيضا، لكنها لم تخلقها من عدم!
يمكن ردّ شيوع المضافاتية، وربّما نشأتها أيضا، إلى نمط الثقافة السائد، والطريقة التي تعمل بها عقولنا أيضا. النمط الثقافي محكوم للنمط المعيشيّ. ساعات العمل الطويلة، ذات الإنتاجية المنخفضة، والأحاديث المقتضبة المتفرقة التي يجب أن تتحلى بعوامل الفرجة لتكون جاذبة، والحياة اليومية خارج العمل المشغولة بالكامل بالمناسبات الاجتماعية، من أفراح وأتراح وعزائم وجلسات عائلية، كل هذا يلعب دورا في انتشار المضافاتية. يكفي أن تتذكر ما سمعته في آخر مناسبة، وتركته يمرّ دون تعليق لكي لا تفسد الودّ بينك وبين أقاربك، وتتخيل أنك تسمع الكلام ذاته في محاضرة أو ندوة ثقافية. كلما تخيلت هذا وجدتني ألكم وجه المحاضر الذي تجرأ أن يتفوّه بهذه التفاهة أمامي، مع أنني اكتفيت بقول “الله المستعان” أمام التفاهة ذاتها وهي تصدر عن أحد أقاربي أو زملائي في العمل.
أمّا ما أقصده بكون الطريقة التي تعمل بها عقولنا سببا من أسباب شيوع المضافاتية، فهو ذاته ما قصده أفلاطون عندما قال: “الساردون يحكمون العالم”. نحن أسرى القصص، أسرى السرديات. نفهم المعلومات بناء على السردية التي تأتي فيها. السياق هو الحكم. وإذا كانت وسائل التواصل تزوّدنا بالأخبار السريعة والإشاعات والأفكار، وكثير من الأمور المنتزعة من سياقها، فإننا سرعان ما نرتب هذه المعلومات داخل السردية التي نتبناها، والتي أتت غالبا من المضافاتية. سواء كانت هذه المضافاتية على صورة حوار مع زميل ذلق اللسان، أو على صورة برنامج حواريّ على قناة عريضة الجمهور.
هكذا نعلم أنه ثمة سلسلة دائرية شريرة تتآمر ضد وعينا، تتلخّص حلقاتها في: وسائل إعلام تابعة للنخبة الثرية الحاكمة، وللغرب والأعداء من ورائهم، ثم وسائل تواصل ذات خوارزميات معيبة تلعب دور حجرات الصدى لوسائل الإعلام الضخمة تلك، ثم عقلنا القصصي التبريريّ الذي بناه موروث قصصيّ، وثقافة سماعية، ثمّ دوائر الرصد في وسائل التواصل الاجتماعيّ مرة أخرى، ثم دوائر إدارة المعلومات التي توجّه وسائل الإعلام.
إذا افترضنا أن ما توصلنا إليه لغاية الآن صحيح بالفعل، فكيف نفسّر أن وسائل الإعلام والدوائر الرسمية بدأت تذمّ الشعبوية مؤخرا؟ كيف يذمّ أحدهم ابنه الذي رعاه وكبّره ورسّخ نفوذه بيده! هنا علينا أن نبيّن أن الشعبوية عملية، وعاء، وليست مضمونا أو محتوى، ولذلك فإنها تقابل أحيانا بالترحيب من قبل أعضاء النخبة السياسية والإعلامية، عندما يكون محتواها في مصلحة مشغّليهم، ثم تقابل بالرفض عندما يكون محتواها ضدّ مصالحهم.
استطاعت روسيا فهم اللعبة مبكرا، وقامت بدراسة فنّ الشعبوية، وأسست قناة روسيا اليوم، التي تعدّ أمهر اللاعبين في هذه اللعبة القذرة، واستخدمتها مع مجموعة أدوات شعبوية أخرى ضدّ المعسكر الغربيّ. لهذا يعزو عدد من الكتاب والسياسيين صعود ترامب إلى شركة خدمات إنترنت روسية. وجاء هذا وسيلة رديفة من وسائل التأبيدية الرئاسية، التي مارسها بوتين في روسيا، ومارسها أوردغان في تركيا، وسعى إليها الإخوان في مصر.
الشعبوية التي استخدمت لتدمير ليبيا، واستخدمت لتأزيم الوضع في سوريا، وتأجيج صراع في اليمن من ثم شنّ حرب تدميرية عليه، واستخدمت كأداة لدعم إرهاب جماعات الإسلام السياسي، بمباركة نيوليبرالية عالمية، باتت الآن تشكل خطرا على صانعيها الأوائل. باتت الشعبوية شرخا بين الحكومات والشعوب، يتسع أكثر وأكثر، واعدا الجميع بجحيم قادم، لاسيّما في البلاد التي لا تملك مفاتيح اللعبة الشعبوية جيدا.
في الأردنّ، عقب كارثة غرق رحلة مدرسية في سيل وادي العين الزرقاء، ما اصطلح عليه بفاجعة البحر الميت، طالب عدد من النشطاء باستقالة وزارية، لحكومة يتوقّع منها أن تمرّر برنامج صندوق النقد الدولي، ولما انتشر هذا الطرح إلى الحدّ الذي تستطيع الحكومة رصده بأدواتها البدائية، أعلن وزراء استقالتهم تلبية لهذا المطلب الشعبويّ. لكنّ هذا الرصد البطيء والاستجابة المتأخرة لشروط العملية الشعبوية، التي استغلتها النخبة الحاكمة لصالحها زمنا، تسببا بإبطال مفعول هذه الاستقالة، لاسيما وأن الوزراء المستقيلين سينعمون براتب الوزراء التقاعديّ، طوال عمرهم!
ما يزال الشعب غاضبا، وما تزال الحكومة مبتدئة في لعبة الشعبوية، ولذلك فإنّ هذه الأزمة أو أزمات لاحقة قد تكون قاصمة لظهر العقد الاجتماعيّ المتهالك أصلا. بينما تمرّست سوريا وأحلافها في لعبة الشعبوية بطريقة تضمن استمرارها رغم كل العداء لها. لكن المرعب هو إتقان الصهاينة لهذه اللعبة لدرجة تفوق من يستخدمهم كأداة لإبقاء الوطن العربيّ في الحضيض، لذلك فإن التقسيمة الجغرافية السياسية ما تزال فاعلة حتى هذه اللحظة. أي أن الأردنّ عليه كدولة طرفية أن يعود إلى حاضنته الطبيعية، وإلى خطاب قوميّ جامع، ويغيّر تحالفاته ليقترب أكثر من الطرف السوري الروسي.
أمّا علاج مرض الشعبوية، فهو يكمن في مصداق كلمة جارة لها في الاشتقاق وهي الشعبية، وهنا لا أقصد الدلالة العامية لكلمة الشعبية، بل أقصد الدلالة السياسية المرتبطة بالشمولية والديكتاتورية الوطنية، ديكتاتورية الفقراء، حيث مصلحة الجماعة، كما يفسّرها ضمير الأمّة متمثلا بمفكّريها ومناضليها، هي العيار الأوحد في تقرير خطوة سياسية ما. هذا مع إتقان لعبة الشعبوية التي غدت شرّا لا مفرّ منه، فهي أداة الأعداء المفضلة، ولابدّ من تعلّم شروطها لإبطال مفعولها على الأقل.