يظنّ قطاع ممن يوصفون بالتنويريين أن العملية التنويرية يمكن فصلها _ولو إجرائيا_ عن سائر مجريات حياتنا، أو يمكن الحديث عنها بعيدا عن السياسة، والحقوق القانونية، ومهنية الإعلام، وهكذا يبدو لهم التنوير مجانيا بلا ثمن، لكنهم سرعان ما يصطدمون بالحقيقة، سرعان ما يصطدمون بأن واقعنا متشابك معقد، لا يمكن فيه لمن يدعي دور المثقف أن يأخذ زاوية يسميها مشروعه، دون أن يخون دوره في بقية زوايا المشهد.
في الموروث الشعبيّ تعبير طريف، يقوله المرء عندما يعترض عن إبطال مفعول الكلام عن طريق تمييعه أو التركيز على هوامشه دون متنه، أو سوى ذاك من طرق تفقد الكلام معناه، فيقول ناهرا من يفعل ذلك: “لا تخنث الهرج”، يعني بالهرج الكلام، ويعني بالتخنيث تحويل الكلام إلى خنثى ليس ذكرا ولا أنثى، والخنثى غير منتجة للنسل في موروثنا، ولهذا فهو إنما ينهاه عن تحويل الكلام إلى شيء غير منتج.
أستطيع توضيب قائمة بطرائق “تخنيث الهرج”، ولكن المطلوب هنا هو فهم أن كل تشويش يقصد به أن ينقل الكلام من حال طلب النتيجة إلى حال طلب الكلام لذاته، أو طلب نتيجة أخرى غير المتوقعة لمضمون الكلام، فهو يقع في تخنيث الهرج.
الفعل للآلة والصيت للتنوير
أولا يجب أن نوضّح معنى التنوير كما نفهمه، لأن له سياقا تاريخيا، لا يمكن تجاهله، وهذا السياق يؤدي إلى التباس دلالة كلمة التنوير. من ملازمات فكرة السياق الحديث عن قبل وبعد. قبل التنوير كان المجتمع الأوروبي يعيش فيما اصطلح عليه باسم عصور الظلام. ثم إثر انتشار الطباعة عمّمت الكتب، وباتت نسخة الكتاب أرخص بما لا يقاس، من الكتاب المنسوخ يديويا. هذا أدّى إلى انتشار المعرفة، وتعمّقها وتقدّمها. ثم جاءت الثورة الصناعية، ونشط التنافس على الأيدي العاملة بين البرجوازيين الصناع الذين يريدون الأيدي العاملة عمّالا، والإقطاعيين الذين يريدونهم فلاحين، تغيرت أنماط الإنتاج، وأدّى ذلك إلى تغير شكل الدولة، فظهرت الدولة “الوستفالية” الوطنية، بعد عصور من الإقطاعيات والملكيات المرتبطة بالكنيسة. هذا يعني خروج الحكم من يد الكنيسة.
بسبب هذا السياق ترتبط كلمة تنوير بعدد من الأمور معا: تصاعد الحريات الفردية، الصدام مع القيادة الدينية، صعود العلمانية (النظرة المتصلة بالعالم المنظور) أمام الغيبية، صعود النظام الصناعي أمام النظام الإقطاعي، انتشار المعارف، تطور الفلسفة. وبسبب هذا السياق أيضا يظنّ التنويريون أن الأمر هو محض منافسة على الجمهور مع الأفكار الدينية.
لو تتبعنا محطّات عملية التنوير الأوروبية، لعرفنا عدة أمور:
العملية التنويرية لكل مجتمع وليدة سياقه هو، ولا يمكن استنساخ تجربة أوروبا هنا في الوطن العربي.
التنوير في أوروبا بدأ داخل الكنيسة، ولم يبدأ مضادّا لها. هو انفصل عنها أثناء سيرورته، ثم تصادم معها، لكن الطليعة التنويرية لم تكن على صدام مع السرديات الكبرى للديانة المسيحية.
السياقات المعيشية حاكمة حاسمة، وليس ثمة شبه بين سياق التنوير في أوروبا والتنوير عندنا، فنحن دخلنا المرحلة الاستهلاكية، ونعيش في عالم ما بعد صناعي، بعكس أوروبا الإقطاعية في ذلك الحين.
تأثير المفكرين لم يكن بالإقناع. الإقناع لم يتجاوز النخبة، لكن التأثير الحقيقي للعلم والفلسفة كان بالاختراعات التي غيرت نمط الحياة، فتغير معه كل شيء.
إذا فهمنا هذا، فإننا نفهم أنه ليس مقبولا أن تسلك مجموعة سلوكا صداميّا ماويّا (نسبة إلى ماو تسي تونغ مشعل الثورة الثقافية في الصين)، وهي تحمل خطابا ليبراليا نخبويا مرتهنا للغرب في الأفكار، وللرجعيات العربية في التمويل النفطي.
تخنيث التنوير
إننا نستطيع أن نحدّث المسلم القياسيّ محدود الثقافة، الذي يكدّ على رزق عياله، بما يفيده من أفكار، ونوصل له المضامين النافعة، دون أن نشعله غضبا، لكن التنويريين الشكلانيين مصرّون على العناوين الرنانة، وأمامنا مثال راهن.
أثناء كتابة هذه السطور ثمة جلبة عظيمة حول منع مؤتمر لمنظمة “مؤمنون بلا حدود” التي لم أشهد على حادثة واحدة تتصدّى فيها لأمر معيشيّ سياسيّ يهمّ الناس متخذين جانب التحرر السياسيّ من الهيمنة الغربية، أو التحرر الاقتصادي من مال الرجعيات العربية. عندما تفتح منشورات هذه المؤسسة، وكثير منها رائع وتنويري بالفعل، تصدم بقدرتهم على صياغة عناوين رنانة، وجمل وفقرات قد ترد في مشهد كوميدي يسخر من المثقف الذي لا يفهمه أحد، كان من الممكن صياغتها بصورة أبسط، وبطريقة أقل استفزازا.
وكان من الممكن أيضا أن تظهر المنظمة عنايتها بالشأن المشهود، العالم (العلماني) عالم الشهادة، بجانب عنايتها بالغيبيات، فيشعر المواطن البسيط أنها تقف في جانبه، أنها تعينه على فهم واقعه والتعامل معه، بدل أن تبالغ في التعقيد.
المؤتمر بعنوان “انسدادات المجتمعات الاسلامية والسرديات الاسلامية الجديدة”، وفي جدوله المعلن ورقة بعنوان “التاريخ الشعبي لولادة الله”. هذه العناوين من شأنها أن تسدّ الطريق في وجه المؤتمر، وأن تعطي لخصوم المنظمة فرصة ثمينة من المستبعد ألا يستغلوها، أن يهاجموه وأن يحرّضوا الناس عليه.
كان من الممكن نقل المضامين أيا كانت تحت عناوين أقل صدامية، لكن الليبراليين يمارسون هجوما من اليسار (نوع من أنواع المزاودة) على المثقفين المشتبكين المعادين لبرنامج الرجعيات النفطية العربية، باجتراح عناوين صادمة، واثقين بكون السلطات الواقعة تحت هيمنة المال الخليجيّ، وهيمنة السياسة الغربية، ستناصرهم ضدّ جماعات الإسلام السياسيّ المكروهة لدى مموليهم.
هذا يقع تحت ما أسميه “تخنيث التنوير”، كما تقع مواقف هؤلاء المثقفين العملية، الذين لا يكفون عن استخدام لغة مناورة مراوغة، عندما يكون مطلوبا منهم أن يمارسوا دورهم كمثقفين في مواجهة البرامج السياسية لجماعات الإسلام السياسي.
أليس بين هؤلاء من قرأ كتاب فنّ الحرب لسن تسو! ألا يعرفون كيف يحددون مشاكلنا ويواجهونها دون تشتيت! لقد منع المؤتمر، وسجّلت الرجعية انتصارا ضدّ فكرة التنوير. لكن لا يغب عن بالنا أنها سجّلته ضد مؤسسة تماثلهم في كونها غربية الهوى، رجعية التمويل، تماما مثلهم.
وإذا أردت أن تتأكد من أن برنامج الإخوان المسلمين في عمقه هو برنامج ليبرالي، فعليك قراءة المقال الذي تجد رابطه هنا:
السيولة الإسلامية واللزوجة الإرهابية