افرك عليه ثومًا!

ليس عجيبا أن تختار الطريق الأسهل والأقصر بين طريقين، لكن العجيب أن تصرّ على اختيار الطريق الأسهل والأقصر رغم معرفتك أنه لا يوصل إلى المكان الذي تريد. وإذا كان العجب هو شعور الاستغراب، فقد يتوقف خيارك عن إثارة العجب إذا عرفنا سببه، كما قيل من قبل: “إذا عرف السبب بطل العجب”. لكنني لا أستطيع ألا أستغرب رغم تفكيري الطويل بأسباب لَوْكِنا للهراء.

كنت شرعت في كتابة مقال يعالج قضية “تقاذف كرة اللوم” قبل أن يصلني الخبر المحزن، عن حادثة قتل مجموعة من الطلبة والأساتذة والمدربين في منطقة  الأغوار في الأردن، وقبل أن أتابع ما يكتب في وسائل التواصل الاجتماعي في هذا الشأن، فأشاهد عملية تقاذف كرة اللوم من يد إلى أخرى. الوزارة تلوم المدرسة، والناس تلوم الوزارة، وبعض العاملين في المدارس يلومون البنية التحتية، والمتطرفون يلومون البعيدين عن الله، حسب تعريفهم لله وللقرب والبعد عنه.

قبل أن أترككم مع المقال الذي عُدّل قليلا ليستشهد بالحادثة وبردود الأفعال عليها، لابدّ أن أقول إنني لا أتوقع من أي إنسان عاقل، أن يبقى عاقلا مع استقبال مثل هذا الخبر، فالطبيعي أن يطير صواب الإنسان، وأن يفقد عقله، وأن يشتم كل شيء! هؤلاء أطفال، ذهبوا إلى المدرسة ليطلبوا العلم، فجاءهم جهل المجتمع على هيئة سيل جارف، خلّفهم بين شهيد ومصاب ومفقود! هؤلاء من كان يجب على الكبار أن يحموهم من جهلهم، وسوء تربية بعضهم، ويمنعوا التنمر اللفظيّ عنهم، ويعلّموهم ما يلزمهم ليحيوا حياة ناجحة ذات معنى. فإذا بالكبار يقتلونهم بجهلهم.

إذا أصابك أي مكروه من مرض أو جرح، فإنك لا تعدم في مجتمعنا أن تسمع نصيحة من أحدهم، تبسّط لك العلاج: اشرب لبنا مع ليمون، أو امضغ ميرمية، أو افرك على جرحك ثوما، أو اقرأ على طفلك سورة من القرآن! ورغم أنني لا أقول إن الميرمية عديمة الفائدة، أو الثوم ضار، ولا أذم قراءة القرآن، إلا أنني لا أتحرج من وصف كل هذا بالغباء، فالإنسان العاقل عليه أن يبحث في السبب والأخطار المحتملة وإزالة الأعراض وإزالة الأسباب. وإلا فليحمل عوضا عن رأسه رغيفا!

الذي نصحك بفعل كذا، لكي يزول ألمك، لم يكن يقصد إلا أن يساعد. نحن نبدي تعاطفنا بصورة معيبة، فنقفز إلى تشخيص المشكلة بصورة متسرعة، وتقديم حلول ساذجة، مع أنه كان يكفي أن نصغي، وأن نحترم مشاعر المصاب وآلامه، وأن نحترم ذكاءه وقدرته على البحث عن حل لمشكلته، وأن نثق بالعلم والطب.

عملية تقديم الحلول المتسرعة، فوق كونها ضارة، هي أحد أعراض مشكلة أكبر منها. المشكلة الكبرى عدم تقبّل الجهل، وهي صورة عن ادّعاء المعرفة، أو توهّمها. الغرور يغذي الوهم، والوهم يغذي الغرور. أغلب أفراد المجتمع يظنون أنهم يمكن لهم أن يحلوا جميع المشاكل بعدد قليل من الخطوات، لو قدّر لهم أن يكونوا صانعي قرار في مجتمعهم. الحقّ أن مشاكلنا معقّدة جدّا، وحلولها ليست بسيطة على الإطلاق.

في الحادثة المؤلمة المتمثلة بغرق رحلة طلبة في الغور، الأمر متفرع كثيرا، وفيه عدد كبير من المساهمين! فالمدارس الخاصة تتعامل مع زبائن لا مع طلبة، والزبون هنا هم أهل الطلاب، الذين يريدون أشياء يظنونها خيرا. إما أن تحقق المدرسة طلباتهم أو يلغوا تسجيل أبنائهم فيها. والمدرسة بالنسبة لملاكها شركة يقاس نجاحها بالربح، ولذلك فهي تطالب الإدارات بالمرابح. والإدارات ترى في المعلمين موظفين، لا أصحاب رسالة ولا تربوين، ولا أصحاب رؤية من الأصل… المعلمون يرون في الطلبة أطفالا أفسدهم الدلال… الطلبة يرون في المعلمين ما يرون… إلخ.

لو رجعنا للعلم، فإن الجميع مذنب بصورة أو بأخرى:

يتوقع من حكومة بلد تعاني من فقر شديد في المياه، أن تضع جمع مياه السيول بالسدود والحفائر، على رأس أولوياتها، لا أن توقع معاهدة تمنعها من جمع مياه الأمطار!

يتوقع من البلديات وضع إشارات تحذيرية حول المناطق التي تجري فيها السيول، فهي معروفة ولا تتغير!

يتوقع من المعارضة أن تكون عقلانية في مطالبها، لا أن تطالب من الحكومة أن تقوم بإجراءات احترازية غير مجدية اقتصاديا، فالأيام الممطرة لا تتجاوز خمسة أسابيع في السنة، والمطر الغزير فيها نادر جدّا… لذلك فإنه من الطبيعي ألا تكون البنية التحتية لدينا مجهزة للظروف الاستثنائية.

يتوقع من الإعلام ألا يكون “مزارع محتوى”، هدفها زيادة الدخول على المواقع. فلا يبالغ مرات ومرات فيما يخص الظروف الجوية، حتى يفقد الناس ثقتهم بالنشرات الجوية.

يتوقع من المجتمع تشكيل لجان أهلية لمساعدة الأجهزة الحكومية في الظروف الاستثنائية.

يتوقع من الكتاب والعارفين بالأمور التقنية أن يكونوا عيونا للناس، تريهم مواطن الخلل، وطرق الحل، قبل وقوع الكوارث.

يتوقع من القادة الدينيين أن يتصدوا للتخلف الناتج من الفهم الخاطئ لمفهوم القدر.

يتوقع من الأهل أن يعوّدوا أبناءهم على المرونة، وعلى أن التغييرات في الخطط شيء متوقع ومطلوب، وألا يحصلوا دوما على ما يريدون.

يتوقع من الأجهزة الحكومية أن تخاطب الناس على أنهم عقلاء، وأن تشرح لهم كيف يصنع القرار. بالمناسبة ثمة وزير ظهر على إحدى القنوات مؤخرا، وهو يؤيد صفقة كان يعارضها من قبل، محتجا بموقعه اليوم! وكأن المنصب يتيح لك معلومات لا يعرفها الناس، رغم أنها تمسّهم، ولم يتكلّف عناء توضيح المعلومات الجديدة للناس!

ولنترك هذه القائمة الطويلة من التوقعات، وننظر في الأمر بتجريد…

المجتمع العربيّ مصاب في مقتل، إنه مصاب في كينونته كمجتمع، فالتفكير الجمعيّ “الجمعانيّ” مضروب، غير منتج. ولا علم للأفراد بنظريات الأخلاق، ولماذا عليهم أن يجتنبوا سلوكا ما! والجميع يكتفي بتصنيف الأفعال إلى: حرام وحلال، صح وخطأ، جميل وقبيح، بطريقة أبوية لا تفصّل في أسباب التحسين والتقبيح، ولا تغوص في آلية التفكير في المواقف والأفعال.

والفردية “الفردانية” التي تسيطر على غالبيتنا مقرفة قاتلة. كثير منا يظنّ أنّ عليه أن ينتبه إلى مصلحته هو فقط، وأن أي عناية بمصلحة الجماعة هي على حساب مصالحه الشخصية، والحقيقة أن المصلحة الجماعية توفر الأساس الذي ننطلق منه إلى مصالحنا الفردية، ولذلك فإن أي مصلحة فردية تأتي على حساب الجماعة تكون متوهّمة، تماما كما نتوهّم الحرية الفردية.

تخيّل أن تناول شخص لا تعرفه لدواء ما قد يكون قاتلا لابنك! ربما تعلم بقدرة البكتيريا على التطور، وتكوين مناعة ضد المضادات الحيوية، وبالآتي فإن استخدام مجموعة من الناس للمضادات الحيوية دون حسابات دقيقة، تؤدي إلى تطوير بكتيريا قاتلة لنا جميعا! ولكن بنية القانون اليوم، لا تسمح لنا بمقاضاة الشركات التي تسوّق الأدوية بطريقة لا أخلاقية، وتجعل الأطباء يفرطون في وصف مثل هذه العلاجات الفردية القاتلة للمجموع!

إن الوهم المسيطر، الذي يجد له شواهد تثبته مجتمعنا، يقول: “ما بتروح غير على الآدميّ” أي لا يخسر إلا الملتزم الخلوق! وهذا يبني مجتمعا وقحا فاشلا، فتجاوز أحدهم لقوانين المرور، وإن كان _للأسف_ بلا عواقب، يجب ألا يحضّنا على تجاوز القوانين، لأن إشاعة عدم الالتزام بقوانين المرور ستؤخرنا جميعا!

ثمة مثال واقعيّ على مستقبلنا إن واصلنا الانحدار، وهو مولدافيا “مولدوفا”، تلك البلد التي تصنّف جحيما أرضيا، لا أحد فيه يراعي مصلحة الجماعة، مما يؤدي إلى الإضرار بالأفراد كلهم. لا بدّ أن يبدأ الجميع بمراجعة مسلكيتهم، وكيف تؤثر على الجماعة، وإلا فإننا نصنع جحيمنا.

ولا بدّ أن نكفّ عن الاستسهال، وذلك بعدم البحث عن حلول فورية، فردية كانت أم جماعية، والاستغراق في البحث عن الحلول بصورة علمية نظرية تجريبية. وليسمع أحدنا لغيره متعاطفا لا واعظا. تذكرون الذي قال لصديقه افرك على إصابتك ثوما؟ لقد تسبب بالتهاب أنسجة يد صديقه، مما أدّى إلى بتر ذراعه!