يقال: إن بعض السكّان الأصليين للأمريكيّتين كانوا يرفضون أن يتصوروا، لأنهم كانوا يظنّون أن المصوّر يسرق أرواحهم إذا وضع رسم وجوههم في صورة فوتوغرافية. الروح مفهوم معقّد، فالكلمة في ذاتها تعني شيئا مختلفا عما يتبادر للذهن اليوم، ويمكن تخيّل مسيرة الكلمة في الزمن لننظر مدى تعقيد هذا المفهوم.
الروح في الأصل الاشتقاقي لها ككلمة متعلقة بما يشمّ من الهواء، ومن الأصل نفسه تأتي كلمات مثل الريح والرائحة والريحة وأروح (أي بدت له رائحة) ومنها الرواح أي وقت المساء قبل الليل، لأن النسائم تهبّ وقتها، لكنها تعني القوة والحياة، وهنا لنا أن نتوقع أن مسيرة الكلمة كانت كالآتي:
بدأ الأمر من رائحة الميت، فيقال عن الكائن الذي مات وظهرت رائحته: “إنّ جثته أروَحت.” أي خرجت رائحتها، ويقال أيضا “خرجت روحه.” أي بات فطيسا، جثة لها رائحة، وسُحِب الأمر على المجاز، لما قيل عمّن لم يمت: “لم تزل فيه روحه.” أي أنه لم يخرج رائحة الموت المعهودة، فصارت قوة الحياة روحا، ومشت الكلمة في لغة الناس إلى أن تلازمت فكرة القوة مع كلمة الروح.
ولقد حاول القدماء أن يشخصوا مفهوم الروح “قوة الحياة” فسحبوها مرة على رطوبة الجوف، كما انعكس في الحديث “في كل كبد رطبة أجر”، ومرة قالوا بأن الروح جسم لطيف في أعلى القلب، وما إلى ذلك من تخيّلات. وفي القرآن نجد أن الله يجيب على سؤال عن الروح آمرا النبيّ أن يقول: “الروح من أمر ربّي”، وقد ظنّ كثير من المفسرين أنه ينهر السائل بهذا الجواب، لكنني أراه يجيب فيقول: قوة الحياة آتية من الإله الخالق. فهل اكتشف العلم الحديث ماهية الحياة؟
من ناحية إجرائية، ينظر العلماء إلى الحياة بوصفها مجموع عمليات ذات مواقيت، تسمى “عمليات حيوية”، وأهمّ دلائلها الأيض، أي البناء والهدم، فإذا توقف الأيض في غير ميقات كمونه، فالكائن الحي بات ميتا. لكن الحياة من ناحية نظرية عصية على التعريف، ومن العلماء من يعدّها مفهوما أوليا لا يعرّف.
أمّا المفهوم الدينيّ والثقافيّ للروح، فهو أمر آخر تماما، فالناس تستخدم هذه الكلمة على أنها تعني مركز كينونة الوعي، ويرونه على أنه ذات لا تقبل التقسيم، إذ يكون الإنسان مركّزا في داخلنا على شكل روح. هذا يفتح بابا للبحث في الوعي، وماهيّته، فنحن نخلق مسافة بيننا وبين أجسامنا عندما نقبل فكرة الروح، كما نخلق مسافة بين عقولنا وأدمغتنا عندما نقبل مفهوم الوعي. ولو تأملنا الأمر فلن نجد دليلا ماديا واحدا على أن العقل ليس طريقة يعمل بها الدماغ، ولا أن الحياة ليست طريقة يعمل بها الجسد، أي أن مفاهيم الروح والوعي مفاهيم اختزالية.
فإذا تفكّرنا في المجاز الأدبيّ الحاضر في نظرة سكّان أميريكا الأصليين “الهنود الحمر” إلى الروح، فإن لنّا أن نقول: إن الهنديّ الأحمر إنما خاف على فكرته عن ذاته، عنده وعند غيره، ولم يقبل أن تفصل صورته عنه وتجمّد في لوحة لدى المصوّر. ربما كان الهنديّ يريد أن يبقى جميعا، كلا متحدا، لا يمكن لأحد فصل شكله عن طبعه عن أفكاره عن تاريخه.
وإذا كانت المصوّرة أو الكاميرا هي سارقة أرواح الهنود الحمر، فعصرنا فيه سارق أرواح آخر، هو وسائل التواصل الاجتماعيّ مثل فيسبوك وتوتر ولينكدإن وإنستغرام وغوغل والقائمة تطول. بمعنى أن وسائل التواصل الاجتماعيّ تفصل صورة الفرد عن ذاته، وتحوّلهما إلى سلعة وسوق، الصورة تصبح سلعة، والذات تصبح سوقا، والإنسان يضمحلّ بسبب انفصال هذه عن تلك.
يهيل الكاتب الأمريكيّ “جارون لانير” الحجة تلو الأخرى ليدفعنا أن نهرب بأرواحنا من وسائل التواصل بنموذجها الحاليّ، وهذا في كتابه الجديد (10 مرافعات لمحو حساباتك على وسائل التواصل الاجتماعيّ فورا)، ساردا حججه العشر بالترتيب الآتي:
أولا: خسارة الإرادة الحرّة.
وهذا لأن وسائل التواصل الاجتماعيّ تتلاعب بسلوكنا وخياراتنا، ليس عن طريق علماء نفس، ولكن عن طريق خوارزميات تراقب سلوكنا، وتسجّل تفضيلاتنا، من ثم تتيح هذا الكم الهائل من المعلومات للمعلنين، الذين يستغلونها ليجعلوا السلوك المراد، الذي لم نكن لنسلكه وحدنا، أكثر جاذبية وقابلية. عندما يكون المعلن حزبا سياسيّا فإن هذه المعلومات تؤثر في مستقبل بلد ما، إذ تتسبب في نجاح مرشّح على حساب آخر، هذا في بلاد الغرب، أما في بلادنا فيتمّ تمرير برنامج هنا أو قانون هناك، باستخدام هذه المعلومات.
أيضا، وسائل التواصل مصممة لتكون إدمانية. يتحدث الكاتب هنا عن أبحاث تتعلق بالاستجابة الشرطية (تذكرون بافلوف وكلبه؟)، إذ إن فشل الاستجابة الشرطية بين الحين والآخر يدفع الإنسان لتكرار السلوك أكثر، فإذا نجحت أن توصل صوتك مرة تلو المرة على وسائل التواصل الاجتماعي، فإن الخوارزميات مصممة لتمنحك فشلا بين الآن والآخر لتخرج إصرارك على أن تنشر أكثر وأكثر. هذه العملية هي أساس فكرة الإدمان.
ثانيا: نموذج الأعمال الخاص بوسائل التواصل نموذج خطر.
خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعيّ مصممة لكي تعدّل سلوك المستخدمين وتحوله لإمبراطورية للإيجار، أي لإيجار المعلنين، وهذا يحدث عن طريق خصائص ست في هذه الخوارزميات: إعطاء الأفضلية للأشخاص المزعجين ولفت الانتباه لهم، التدخل في شؤون الناس بمراقبتهم، حشو المحتوى في حلوق المستخدمين بعد جعلها مناسبة لهم كأفراد، توجيه سلوك المستخدمين فيما يتعلق بالشراء مثلا، كسب المال بطرق لا أخلاقية ببيع معلوماتنا لجهات لا نريد أن تصلها هذه المعلومات، تزييف الحسابات وبالآتي تزييف المجتمعات، فكثير من الحسابات وهمية، وتوهم الناس بأفضلية رأي أو منتج ما، وبالآتي هي تزيف صورة المجتمع لدى أفراده.
ثالثا: وسائل التواصل الاجتماعيّ تستطيع تحويل الناس إلى مهووسين.
نحن لا نتصرف دائما بالطريقة نفسها، وقد نكون وقحين أو سيئي الخلق أحيانا. وسائل التواصل تخرج أسوأ ما فينا، وهذا بمنحها للمزعجين أفضلية في تسليط الضوء عليهم، وحتى قبل ذلك، إذ إن كثيرا من المراقبين لاحظوا ميل الناس وميلهم الشخصي هم أنفسهم إلى السلوك المزعج في العالم الافتراضي، حتى قبل وجود خوارزميات تفضيل الحمقى والعنيفين.
رابعا: الإنتاج المحموم للمعلومات الخاطئة.
حيث يمكن لأي معلن شراء متابعين وهميين، وإعطاء إعلاناته وطروحاته شهرة مزعومة، تستغل سلوكنا القطيعيّ لتصبح شهرة حقيقية. هذا بالإضافة إلى زراعة المحتوى، حيث تسببت الخوارزميات بشهرة طروحات مضللة، لأنها تجلب قراءات أكثر، مما أدى إلى انتشار الطروحات المعيبة كالأرض المسطحة، ونظريات المؤامرة وغيرها… حتى إن كتّابا رصينين باتوا يسلكون طريقة “مزارع المحتوى” لجلب الانتباه.
خامسا: وسائل التواصل الاجتماعيّ تنزع المقولات من سياقها، وبالآتي فهي تدفع إلى سوء الفهم.
سادسا: خوارزميات وسائل التواصل تدمّر قدرتنا على التعاطف.
هذا بنزعها كل شيء من سياقه، وتوحيدها جماهير الخطابات المختلفة في جمهور واحد، فالجميع “متابعون” فقط، وهذا يلغي قدرتنا على التعاطف مع نوع واحد على الأقل من أنواع الجمهور أثناء تشكيل الخطاب، وهو كذلك يلغي قدرة الجمهور على تشكيل الصلة العاطفية معنا.
سابعا: تعزيز المشاعر السلبية.
لأننا مصممون جينيا للهروب مما يؤلمنا أكثر من لحاق ما يسرّنا، فنحن مصممون أيضا لننتبه لما يسوؤنا أكثر. فوق غياب السياق وغياب التعاطف، فهي توسع إطار المجموعة ليكون العالم كله، ولأننا مصممون للبحث عن معنى وجودنا، وما نتفوق فيه، بين المجموعة التي نعيش فيها، فمن المدمّر للفرد أن يجد نفسه يعيش مع العالم كله دفعة واحدة. التلاعب بمعايير الجمال مثال جيد على هذا. عندما نقسم الناس إلى مجموعات، ونقسم المجموعات إلى أدوار، فإن عددا أكبر من الأفراد يشعرون بمعنى دورهم، لكنّ وجودنا في وعاء واحد يقلل عدد الأدوار المتاحة، وبالآتي فإنه يجعل أغلب الناس تشعر بالتعاسة وبغياب معنى الحياة. لا ننسى أن غياب السياق وغياب التعاطف هو وصفة محكمة للتعاسة أصلا.
ثامنا: إنهم يجمعون أموالا ضخمة من أشياء نصنعها نحن، ولا يعطوننا شيئا.
إننا نفقد وظائفا لصالح التكنولوجيا، وهذا ليس سرّا. ما بالك إذا كانت الخوارزميات التي تحلّ مكان البشر تغذّي رأسمالية جشعة، بدل أن تجعل حياة الناس أكثر رخاء بصورة عادلة! وفوق هذا كله فصانعو الخوارزميات يفعلون ذلك بما نمنحه نحن لهم، من معلومات مجانية، وبيانات شخصية. الترجمة الإلكترونية تحسنت كثيرا بما استخدمته من جهد المترجمين دون إذنهم، لتحسّن قدرة الخوارزميات على الترجمة. هكذا فقد كثير من الناس وظائفهم، وفي الوقت نفسه، لم تذهب جهودهم للصالح العام.
تاسعا: الآثار السلبية على عالم السياسة.
تحوّل هذه الخوارزميات المجتمعات، التي كان يجب أن تذوب خلافاتها الداخلية بالحوار المحترم، إلى جزر سياسية معزولة، وتشجّع القبائلية (بمعناها المجازي السيئ)، وتمنع الحوار الفعال، وهذا انتقل إلى عالم السياسة على شكل ازدياد حدّة الاستقطاب.
عاشرا: وسائل التواصل تتحول إلى إطار روحيّ يجعل الإنسان كأنه حاسوب قابل للاختراق.
فكرة الكاتب هنا تتعلق بالمجتمع ككل (أو حتى البشرية جمعاء) أكثر من كونها تتعلق بالفرد الواحد، فالخوارزميات التي تنظم المعلوماتية تتعهد تنظيم الواقع لمن يتعامل معها، لأن المعلومات هي الشكل الرقمي للواقع. ولأنها تقوم على فكرة الأُبتمالية، فإنها لا تترك مجالا للصدفة أو لاعتراف الإنسان بجهله، هذا الاعتراف الذي لم يكن للإنسان طريقة للتعامل معه سوى الأديان. الخوارزميات التي تتلاعب وتتحكم بسلوك الإنسان، بالمجتمع البشري بأكمله، تلعب دور الدين في قيادة سلوك الشعوب. وهنا يخلص الكاتب إلى كونها تسرق الروح.
لكنّ المجاز الذي يزودنا به سكان أمريكا الأصليون، الذين رأوا في التصوير الفوتوغرافيّ سرقة للروح، بما هو عزل للصورة عن الذات، يرينا جانبا آخر لفكرة الدين الجديد المتمثل بخوارزميات التواصل الاجتماعيّ، إذ إننا نرى بالفعل كيف يتحول انتباه الإنسان إلى إدارة صورته الشخصية على وسائل التواصل، بحثا عن معنى لحياته، ضمن المجموعة التي تهمّه، التي باتت كبيرة وواسعة إلى درجة لسنا معدّين لمواجهتها من ناحية تطورية، وكأنه يحاول أن يرضي إلها غامضا، يظهر غبطته عن طريق الإعجابات والمشاركات، ثمّ يتركك تستجديه بصلاة توليد المحتوى دون أن يبدي ردّ الفعل المطلوب أحيانا.
ما تطرقنا إليه في هذه المقالة يستدعي كلاما كثيرا حول كل فكرة مرّت أمامنا، ولعلّنا نجد متسعا لمناقشة هذه الأفكار كما يجب في مقالات أخرى.