كتب سن تسو كتابه الشهير “فن الحرب” قبل قرابة 2500 سنة، مضمّنا إياه نصائح لقادة الجيوش، كل نصيحة منها مقتضبة في جملة. تصدّى الشارحون لعكس ضوء نصائحه على واقعهم، حتى رأينا نسخا تشرح “فنّ الحرب” لأغراض المناظرة، وأخرى تشرحه لأغراض تحسين المهارات الإدارية، وأخرى تشرحه للقادة العسكريين في الحروب الحديثة، وأخرى في الإعلام. وهو كتاب يصنّف في ما يجب قراءته لأي قارئ.
وإذا كان سن تسو قد أنهى ما يمكن حمله من ميدان الحروب إلى مجالات الحياة الأخرى، فإن فنون القتال الفردية ما تزال تتطور وتتعدد مدارسها، حتى بات مغريا دراستها لغايات الاستفادة منها في مجالات أخرى كالحوار والخطاب والإقناع، والحروب الفكرية، وأثناء هذه الدراسة التي قد تمتد إلى مقالات أخرى، إذا قررت عرضها، خطر لي أمر آخر.
من الغريب أننا الآن لا نرى فنّا قتاليا خاصا بالشعب العربيّ، مع أن العرب كانوا محاربين أشدّاء، لكنّ هذا الجانب تعرّض للإهمال أيام عصر النهضة الثقافية العربية، فقد كان أمام العرب الكثير ليعيدوا إحياءه وترميمه، بعد عصور الانحطاط العربيّ التي بلغت أقصى قيعانها تحت العثمانيين، فكادت الثقافة العربية أن تختفي تماما.
أريد هنا أن أتطرق لعدد قليل من الدروس التي يمكن أن نحملها من السيف العربيّ إلى منابر الحوار، سواء أكان المنبر هنا منصة في مؤتمر، أو موقعا لنشر المواد المرئية المسموعة، أو صحيفة لنشر المقالات، أو كتابا يحمل خطابا ما إلى القراء.
السيف الأحدب
السيوف العربية لا تميل لأغراض جمالية فقط، فهذا الميل الظاهر في السيف العربيّ له غاياته القتالية. أشارككم هنا ما استطعت أن أكتشفه منها.
السيف المائل يضطر المقاتل للاقتراب من خصمه أكثر.
في حين أن الطعن يناسب السيوف المستقيمة النحيلة، فالسيف العريض المائل يناسبه الشطب. أي أن العربيّ كان يقترب من خصمه حتى يكون من الصعب عليه أن يطعنه بسيفه الطويل المصمم للقتال عن بعد. وهذا لو فكّرنا فيه اليوم في المجالات الحربية، فإنه يقول: إن الخيار الأكثر أمنا هو الاقتراب من العدوّ، حتى نخرج من دائرة الاستهداف، ويكون هو ضمن دائرة استهدافنا، لاسيما وأعداؤنا يجنحون إلى القتال عن بعد بسلاحهم المتطور.
أمّا في مجال الحروب الفكرية، فيجب تضييق التباين مع الخصم قدر الإمكان، والاتّكاء على السمات التي تعطينا أفضلية في الاشتباك القريب. إن الاشتباك يكون على الأرضية التي يقف عليها الخصم، وليس على الأرض التي نحن عليها.
السيف المائل لا يصدّ الضربات بالصدام.
مقبض السيف العربيّ لا يتسع إلا لقبضة واحدة، فإذا أضفنا لذلك ثقل السيف، فإنه يعني أن العربيّ كان لا يصادم الضربات صداما، بل يتفاداها عن طريق حرف الضربة عن اتجاهها، وهذا يناسب المقاتل الذي يحاول أن يقترب من خصمه قدر الإمكان كما أسلفنا.
وكذلك فإنه يسهل عليه حرف ضربته هو أثناء تنفيذها، مع أن ثقل السيف يصعب ذلك. لكي يتمكن من فعل هذا فإنه لا يسمح أن يكون محور حركته قريبا من قبضة السيف، بل يكون متمحورا حول نفسه، أي أن العربيّ لا بدّ له أنه أدرك فكرة مركز الثقل، وكانت حركته متوازنة جدّا تخلو من الاندفاع، حتى إنه مضطر لذلك أكثر من الساموراي الياباني، لأن ميلان سيفه أكبر، ولأن مقبض سيفه أضيق. مما يحسن ذكره هنا أن غمد السيف العربيّ كان يستخدم درعا لحرف ضربات الخصم عن اتجاهها، في حال كانت المبارزة فجائية ولم يكن يحمل درعه، كما يحصل في الحرب.
هذا واضح في فنون الزجل والمبارزات الشعرية، فالشاعر لا ينفي التهم التي تكال له، بل يديرها بطريقة تصبح مديحا، ولكم أن تستمعوا لأي زجّالين أو قوّالين في لبنان أو فلسطين أو سوريا لتروا هذا واضحا. وكذلك فعل العرب في خصومتهم الأيدولوجية فلم يتن تأتي الرسالات الدينية مصادمة لما قبلها، ولكنها كانت تحاول تحييدها، وتقترب منها كثيرا.
السيف المائل يدفع المقاتل إلى أن يكون بجانب خصمه، في حين يبقى الخصم أمامه.
أي أن العربيّ الذي كان يستخدم سيفه لحرف الضربات، ويحاول الاقتراب أكثر، ليستطيع تفعيل قدرة سيفه على الشطب، كان لابدّ له أن ينتقل إلى منطقة تكون بعيدة عن تركيز خصمه، فلا يكون مقابل وجه خصمه، بينما يكون مديرا جسده بحيث يكون الخصم مقابل وجهه، فإذا مددت خطا مستقيما من أنف العربيّ فهو على الأغلب سيصل أُذُن خصمه أثناء القتال.
أي أن العربيّ يحاول ألا يكون هدفا لخصمه، لكنه يبقي الخصم في مجال استهدافه، وهذه الحيلة يمكن تطويعها لتدخل في أي نوع من أنواع المبارزة، حتى الكلامية منها.
السيف الأحدب يجبر المقاتل على تقصير مدّة القتال.
نتحدث عن سيف ثقيل، يحمل بيد واحدة، فليس من المنطقيّ أن يطول وقت القتال. لهذا لا بدّ أن العربيّ كان يحاول تقصير وقت النزال إلى أقصر مدّة ممكنة.
حتى إنني أتخيّل أن العربيّ لم يكن يستلّ سيفه إلا أثناء الهجوم، أو وهو يتصدى بغمد السيف لضربة خصمه حارفا إياها عن مسارها، وميلان السيف هنا يسمح له أن يسحبه من غمده بحركة دائرية يكون مركز الدائرة فيها كتف المقاتل العربي، ويصل محيطها إلى جزء من جسم الخصم.
نرى هنا كيف أن السيف المغمد، وهو رمز لعدم القتال، يتحول سلاحا دفاعيا، ويكون مقدّمة للهجوم أيضا، أي أن العربيّ يحاول أن يتجنب القتال لآخر لحظة، لكنه يحرص على أن يكون مبادرا فيه حتى لو تأخر عن خصمه لهنيهة. ولك أن تعكس ذلك على المبارزات غير القتالية، فسترى سريعا أن السمة الصدامية التي تراها عند بعض العرب اليوم ليست خصلة عربية على الإطلاق.
يجدر بي أن أذكر على هامش هذه النقطة أن الغمد لم يكن يثبت بصورة دائمة على الخصر، وما زال اليمانيون لليوم يستخدمون ميل غمد خنجرهم المبالغ فيه، ليكون عقفة تصطدم بالحزام فيثبت الغمد، ليخرج الخنجر منه، وهذا لا يكون إلا أثناء القتال.
وما زال العرب حتى اليوم يستحقرون من يلوح بسلاحه دون أن يستخدمه، عائبين على من أخرج خنجره وأعاده إلى غمده نظيفا، فهذا يعني أنه متسرع، أو جبان.
ماذا يقول السيف عن الشكل والمضمون؟
بما أننا عدّدنا وظائف السيف، ووظائف الميل الموجود فيه، ووصلنا إلى أن الغمد الذي نراه مزينا لم يصنع من المعدن لغايات جمالية فقط، فهو درع صغيرة أيضا، إذن لا بدّ أن نلتفت إلى كون السيف بحد ذاته زينة، كما نرى الخنجر اليوم عند اليمانيين.
فالعرب كانوا كغيرهم من الأقوام التقليدية، يقرنون بين الشكل الجماليّ والمضمون الوظيفيّ، وهذا واضح في جدالات العرب الدينية أو الأدبية، فهي مطرزة بالبلاغة التي كانت وظيفتها أن يبلغ القول مراده في قلب سامعه.
وأزعم أننا نستطيع أن نحدد من خلال الشعر الوقت الذي انحرفت الثقافة العربية إلى الزخرفة الفارغة في القول، واكتفت بالشكل عن المضمون، وإن كان هذا الوقت مختلفا من أرض عربية إلى أخرى، وإن كان ثمة شذوذ فرديّ هنا أو هناك.
هذا مما علمني إياه تأمّل سيف جدّي العربيّ الذي بلغ مشارق الأرض ومغاربها.