الصدق الكاذب

قبل أن تستغرب _وأنت محق في ذلك_ هذا العنوان، وتظنّه حذلقة لغوية، لابدّ أن نفرق بين الصدق وبين الصواب، وأن نفرق بين الكذب وبين الخطأ، فإذا استطعنا أن نفرق بين ما سبق، فسيبدو العنوان أقل غرابة، مع أنه بالفعل يحوي على نقيضين، هما الصدق والكذب، فهل يجتمعان؟

لنتأمل هاتين المعادلتين:

الأولى: 5+3= 8

الثانية: 8= 5+3

نعم، هاتان المعادلتان يحتويان الأرقام نفسها، والعمليات الحسابية نفسها، لكن الاختلاف بينهما بالترتيب فقط، فالمعادلة الأولى تبحث في ناتج جمع 5 و3، بينما تبحث الثانية في ماهية الرقم 8، ونحن لا نستطيع وصف أيهما بالكذب، فكلاهما صادق، لكن ثمة فرق بينهما، فنحن نعلم أن الأولى حتمية، بينما الثانية هي خيار من عدد كبير من الخيارات حول ما يمكن أن يكون ناتجه 8.

الفرق أن الأولى صادقة صائبة، والثانية صادقة لكن صوابيتها محل بحث، فهل خيار تعريف الثمانية بكونها ناتج جمع الخمسة والثلاثة هو الخيار الأصوب. إذن الصدق وحده لا يكفي. لكننا لا نستطيع دائما وصف ما هو غير صائب بكونه كاذبا، لاسيما وهو صادق.

علينا أن نفرق بين صدق قضية منطقية أو جملة رياضية، وبين صدق إنسان، فصدق الإنسان هو مطابقة ما يصرّح به لما يعتقده، بينما صدق القضية المنطقية متعلق بمطابقتها للواقع، فقد يكون الإنسان صادقا وهو يتفوه بالكذب، وهذا مما تتسع له التعريفات التي أقررناها حتى الآن.

وللتوسع قليلا نقول: لو أخبرتك أن البرازيل تقع في إفريقيا وأنا أعتقد بذلك فعلا، فأنا شخص صادق، لكنني أتبنى قضية كاذبة.

الشيء الذي يصبح مدارا للبحث هنا هو: هل كنت فعلا أعتقد بهذه القضية الكاذبة أم لا؟ وإذا كنت قد وقعت ضحية تضليل كبير، من دماغي ومن الناس من حولي، فهل أستحق اللوم على هذا الاعتقاد الخاطئ، لاسيما إذا كنت قد وضعته على محكّ التجربة؟

قد تستغرب ذلك، ولكن ثمة شواهد كثيرة في الحياة على إنسان يكون صادقا مع الناس، في حين يتفوه بالترهات تلو الترهات وهو يظنها حقا ثابتا، كيف لا وقد جربها، وحصل على تأكيدات من غيره عليها!

جورج ديملن مثال جيد على ذلك، فهو أستاذ الفنون القتالية الذي درب عددا من الأبطال العالميين، وكان أسطورة كبيرة في عالم الفنون القتالية زمنا طويلا، وقد “طوّر أسلوبا قتاليا لتوجيه الضربات التي تسقط الخصوم أرضا عن بعد”، وجربه على تلاميذه وكان فعالا جدا! يسقط الخصم عن بعد مترين بضربة خارقة “ناقضا قوانين الفيزياء”!

 كان جورج ديلمن صادقا مع نفسه ومع الناس، لدرجة أنه قبل أن يراهن مقاتلا يشكّ بقدراته، وكان الرهان بمبلغ ضخم حينها هو 5000 دولار، من ماله الشخصيّ، وقد صوّر النزال وعرض على التلفاز، وهو موجود على يوتيوب، وستراه في نهاية المقال.

الذي حدث كان مذهلا للجميع، فلم يستمر النزال سوى دقائق معدودة، سال الدم فيها سريعا، وسقط أحدهما أرضا، وحسم النزال لصالح خصم جورج.

لا أشكّ في صدق الرجل، كما لا أشكّ في صدق كثير من المهرطقين، لكنّ اللوم يقع على من أوهموه بفعالية ضرباته الخارقة، إذ وقعوا هم ضحية الإيهام، وخدعوا ذواتهم، فكانوا يشعرون بالألم من ضربات غير موجودة!

حال تلاميذ جورج ديلمن لا تختلف عن حال كثير من أتباع المشعوذين الذين يتاجرون بالدين، ولا تختلف عن حال كثير من السحيجة الذين يوقعون رموزهم التي يسحجون لها في قاع الوهم، الذين لا يلاحظون عقم خطاب هذا، ولا فشل نهج ذاك، وهذا لافتقارهم للتفكير الناقد، ولكونهم نشؤوا على التوكيد على السائد، وقهر عقولهم لقبوله.

العقول التي يقهرها المجتمع لتصدق الخرافات بأشكالها العديدة، تجد في النهاية طريقة للانتقام من المجتمع الذي قهرها، فتخربه بهرائها، وتهدم سلمه بإرهابها، وتغرقه بالديون وهي تصفق للمعجزات الوهمية التي أتى بها رمزهم المكذوب.

إليكم النزال الأسطوريّ، شاهدوه واضحكوا وابكوا!