إثر الدمار الذي تفتحت عليه العيون بعد انحسار موجة “الربيع العربي”، أظهر السياسيون العرب أنهم يفهمون نبذ الإنسان العربيّ للفوضى، والرهاب الذي تشكل لديه منها. الفوضى أمر مخيف فعلا، لكن المطبخ الأطلسيّ (الناتو) لا تعوزه الوصفات التخريبية، وهو لديه من الدراسات المسحية والتنظيرية ما ليس له صدى في الإعلام، ولا تفرد له “نخبتنا” الثقافية وقتا وجهدا كافيَيْن. أما الساسة فهم بعيدون حتى عن قراءة الواقع، ولا يعدو أغلبهم أن يكونوا أصحاب وكالة غربية، لا يملكون من أمرهم شيئا.
الماء الذي عكّرته الأحداث الأخيرة، أعني تلك المتعلقة بصفقة القرن، يطفو على سطحه تساؤل عن كيفية تنفيذ بنود هذه الصفقة، إذ هي تنطوي على إلغاء عقود وكلاء قدماء، ومنح عقود لوكلاء جدد، أي أنها محتاجة للفوضى. باختصار، كيف سيتمكّن الغربيّ من إثارة الفوضى مرّة أخرى، رغم نفور الشارع العربي منها إلى درجة الرهاب؟
بقيت أجيب على هذا التساؤل بما أعرف من أفكار راسخة في علم الاجتماع، تشرح أن سلوك الجماعات متعلق بالظروف والغرائز البدائية، أكثر من تعلقه بالوعي الفرديّ المتوفر في أفرادها، حتى اصطدمت بمقولة إنسان بسيط: “فلتقم القيامة… ملعون من يهمّه الأمر… عندما يعمّ البلاء قد لا أجد ما آكله، ولا ما أطعم به أولادي، لكنني سأجد عذرا أمام عيون الناس التي باتت نظراتها تخترقني”.
اقتصاد اليوم الذي يلوم الفقير على فقره بحجة وجود الفرص دائما، وحرية حركة المال، وهي أمور غير متحققة حتى عند من يدعيها في الغرب من الأصل، ناهيك عن الاقتصادات المشوّهة التي مهمّتها استدامة نهب الأطلسيّ للعالم الثالث، اقتصاد اليوم هذا لا يترك منفذا لفقير لكي يعبّر عن إنسانيته، بعد أن يكون امتص آخر رمق فيه، وهو يركض في عجلة الهامستر المسمّاة تنمية بشرية وتطوير ذات، فيدفعه إلى الاغتراب التام، ليكون ميتا يتنقّل بأعضاء حية.
ثمة فكرة خطيرة هنا: إن بلوغ أغلبية الناس درجة معينة من الفقر، تجعلهم يشعرون بأنهم ليس لديهم ما يخسرون، قد يجعل الفوضى تنتشر لدى أول حادثة، لأن هؤلاء الفاقدين للشعور بالحضور جاهزون لمعانقة الفوضى، فهي بلاء عام، يساوييهم بغيرهم ممن لم يحلموا، ضمن الشروط الظالمة للاقتصاد، أن يشعروا بالندية لهم ولو لمرة واحدة!
أخاف من موجة فوضى ثانية، تكون أقل تسليحا وأكثر تخريبا، وتدفع أصحاب الوكالات الغربية في بلادنا إلى تنازلات أكبر وأكبر، للمحافظة على امتيازاتهم، التي لن تدوم، لأنه لن يكون ثمة مبرر لها.