مراكز تحفيظ القرآن | قليل من الصراحة

في ظل الأعمال الإرهابية التي استهدفت الأردن في 2018، لاسيّما بارتباطها مع التحريض على المهرجانات، ولكونها بدأت بتفجير عربة تابعة لجهاز الدرك الذي يناوب لحماية المواطنين في المهرجان، نشرت الكاتبة الأردنية زليخة أبو ريشة منشورا تناشد فيه رئيس الوزراء أن يتحقق بنفسه مما يتعلّمه أطفالنا تحت غطاء “تحفيظ القرآن”، ما جعل مواقع وصفحات تنشر ضد الكاتبة، عادّة إياها تهاجم الإسلام. فما هي حقيقة ما نتعلّمه في مراكز تحفيظ القرآن؟

إنّ عملية العنونة (وضع عنوان والحديث عنه) تنتج غالبا مشكلة عند معالجة أي قضية، فمن الطبيعيّ أن تتعدّد مراكز تحفيظ القرآن بتعدّد طيف الجماعات والمذاهب والفرق التي ترخّص لها الدولة إنشاء هذه المراكز، وهم في الحقيقة أكثر من جماعة واحدة، مع أنه من الممكن بسهولة أن نطلق حكما لا تعوزه الدقة، يقول: إن اللون السلفي والإخوانيّ يغلب على الطيف الإسلامي في البلاد.

فهل كان الأصوب أن نقول إن مراكز تحفيظ القرآن التابعة للجماعات الفلانية هي التي تفعل كذا أو كذا، خيرا كان أم شرّا؟ أم أنه يوجد بالفعل مشكلة في العمليّة ذاتها؟

حافظ غير فاهم

يشيع في عامّيات عربية استخدام تعبير (حافظ مش فاهم) للدلالة على من مرّ على المعلومة لكنه لا يستطيع تطبيقها، ولا ينزلها منزلها في الشبكة التي تشكّل وعيه، كأن يقول أحدهم: نحن مواليد برج العذراء لا نؤمن بالأبراج! هذا دليل على الافتقار للاتساق في الأفكار أو للشملانية في التفكير.

فإذا كنّا نتحدّث عن طفل يحاول حفظ القرآن، لاسيّما عن أحد أبناء هذا العصر، في مركز يقيس نجاحه بكمية الحفظ، ويقوم عليه أناس من الطبقة الخامسة فما دون من المختصين بعلوم القرآن، فإن لنا أن نتوقّع أن يحفظ الطفل دون أن يفهم، ولعلّ تلك ليست مصيبة، فهو يقوّم لسانه، ويحفظ كتابه المقدّس لدى مجتمعه، لكن الأمر ليس بهذه البساطة.

الإنسان غالبا لا يتقن حفظ الأصوات دون تشكيل فهم لها، أيا يكن هذا الفهم، ولكي يحفظ سورة طويلة، لابدّ أن يبني فهما ما يجمع آيات هذه السورة، وينسقها في سياق “سرديّ”، وهذه السردية هي في النهاية فهم عام.

نعم ثمة من يحفظ ولا يفهم أبدا، ولكن هذا ليس مظهرا صحيا، وفي الخبرة المسلمة يقفز إلى الأذهان نموذج القرّاء الذين شاعت تسميتهم بالخوارج، ولنوضّح ذلك بمثال طريف لأحد شيوخ المعتزلة وكيف تعامل مع الخوارج الذين كانوا يقتلون أمثاله، وهي قصة شائعة لها مدلولاتها، حصلت على الحقيقة أم لم تحصل:

يحكى أن أحد أئمة المعتزلة كان في جماعة من قومه يرتحلون من مكان إلى آخر، فصادفوا فرقة من الخوارج، فخافوا على أرواحهم منهم، فقال لمن معه: اتركوني أحدّثهم، ولا تتدخلوا.

ولما سألهم أحد الخوارج أن يعرّفوا بأنفسهم، قال: نحن مشركون لم نسمع كتاب الله، نستجير بكم.

فاستحضر الخارجيّ رغم أنفه الآية التي يحفظها “وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ”، فرحّب بهم وأجارهم، وتلا عليهم آيات من القرآن، ثمّ أراد أن يودّعهم، فأبى الإمام عليه ذلك، وقال له: عليك أن تبلغنا مأمننا. في إشارة لتتمة الآية السابقة “ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ” فبقي رهط الخوارج يحرسون رحل المعتزلة حتى بلغوا مأمنا من السرّاق والمحاربين.

نستطيع أن نستنتج أن الحفظ دون فهم شموليّ، في الخبرة المسلمة، مرتبط بأحوال الحرابة والخروج (أسماء قديمة للإرهاب).

الشيخ غوغل

لنقل أن الطفل لم يتلقّن فهم الجماعة القائمة على مركز تحفيظ القرآن الذي يرتاده، وكان القائمون على المركز يطبّقون دلالة مركز التحفيظ بأمانة، فكيف سيحصّل فهما يعينه على الحفظ؟

سيلجأ للإنترنت، ويبحث في غوغل عن معنى الآية، ولأنه طفل لم يتمرّس في البحث، فهو سيقنع بأول إجابة في أغلب الأحوال، فهل تعرفون ما هي أول إجابة سيجدها؟

سيجد الآراء الوهابية التي تتبرأ منها المملكة السعودية اليوم، بعد سنين من تمويلها، وهي تعترف هي وغيرها من دول الخليج العربيّ أنها من أهمّ مشارب الإرهاب. إذًا فالطفل غدا لقمة سائغة للأفكار الوهابية.

ثم تبدأ مواقع التواصل بسحب تاريخ البحث لديه من غوغل، لتضخ له دعايات المتطرفين الذين ينشرون سمومهم على شبكات التواصل، وبعد تفاعل أو اثنين، فقد يلتقطه أحد المكلّفين بالتجنيد لدى تلك الجماعات.

لا هذا ولا ذاك

إذا استبعدنا الاحتمالين الأوّلين؛ أن لا يفهم أبدا، وأن يقنع بأول إجابات في غوغل، فإن الاحتمال المتبقي هو أن يتلقى الفهم الشموليّ، على الأقل، من القائمين على مركز التحفيظ. هنا نحن أمام مراكز تجنيد للجماعة التي تقوم على مراكز التحفيظ، ولسنا أمام معلّمين للقرآن كما يقفز لمخيالنا، فنهاجم كل من يعترض على انتشارها.

هكذا لا يتبقى سوى هامش ضئيل لنجاة الطفل من الاستقطاب السياسيّ نحو التطرّف، يتمثل هذا الهامش بوعي الأهل، وجودة التعليم المدرسيّ، وقدرة مسجد الحيّ على طرد الأفكار المتطرفة، والحكم على هذه الهوامش متروك للقارئ الكريم.